الرئيسية

عبد الإله بلقزيز: «اللغة العربية تتعرض لامتهان يومي وتمرغ كرامتها في الأرض والدولة لا تتدخل»

حاوره: المصطفى مورادي
بعد «صيام» عن إجراء حوارات لمدة تفوق العشرين سنة، قرر الأستاذ عبد الإله بلقزيز أخيرا أن يتكلم ويخص «الأخبار» بحوار مطول يفصل القول في قضايا تعتمل في واقعنا الثقافي المغربي. فمن الإشكالات المرتبطة بالثقافة المغربية، وخاصة طرق تصريف التعددية الثقافية بين مكونات هذه الثقافة، وعن دور المثقفين، وكذا علاقة الثقافة المغربية بالثقافة العربية، ودور الدولة اليوم في الحفاظ على اللغة العربية باعتبارها مكونا ثقافيا ينبغي الابتعاد عن تسيسه، مرورا بتحولات المشاهد الثقافية والسياسية والاجتماعية في العالم العربي بعد أحداث ما بات يعرف بـ«الربيع العربي»، وصولا لإشكالات الحداثة وهواجسها، يسعى الأستاذ بلقزيز لإلقاء الضوء على العتمة التي تلف التناول البسيط لهذه القضايا التي تحتاج اليوم لحسم حقيقي. آخذا بعين الاعتبار، أن التأخر في هذا الحسم هو ما أدى للانحدار الثقافي الذي ننعطف إليه، حيث استعمال الثقافة في الصراع السياسي، واستعمال السياسة في النقاش الثقافي.

مرت خمس سنوات على صدور الدستور الجديد الذي اختار مبدأ التنوع الثقافي واللغوي، لكن واقع الحال يؤكد أن هذا المبدأ لم يَرقَ بعدُ إلى مستوى البداهة عند الجميع، فالثقافة واللغة تناقشان اليوم بالكثير من التشنج والتعصب، أولا ماذا نقصد بالثقافة المغربية؟
أولا لي تحفظ على عبارة «التنوع الثقافي»، لأننا نوع واحد، وأحبذ استخدام تعبير «التعدد الثقافي». التنوع يشار به إلى حالة فسيسفائية من المصدريات الثقافية والفكرية واللغوية المتباينة من حيث أجناسها، بينما التعدد شكل من أشكال الإفصاح اللغوي والثقافي المختلف عن هواجس متعددة.
أما في ما يخص مفهوم الثقافة المغربية، فأنا أميل إلى القول إن هذه التسمية تقبل بأن يفكر فيها من مدخلين: المدخل الأول هو أن هناك بلدا يسمى المغرب يقطنه شعب يسمى الشعب المغربي، صهر تاريخيا ووقعت أشكال متعددة من أشكال التثاقف عبر تاريخيته، حساسية ثقافية تعبر عن اجتماعه الوطني الداخلي، وهذه التي نسميها في هذه الحالة «الثقافة المغربية» إنما هي الشكل الذي يعبر به المغاربة عن ذاتيتهم الثقافية وعن رؤيتهم إلى العالم المحيط من حولهم.. لكن الأنثروبولوجيا الثقافية هنا لا تكفي، إذ تعلمنا نظرية الثقافة أنه ما من ثقافة يمكن حصرها فقط في نطاقها الاجتماعي الضيق، لأن الثقافة كأي ظاهرة إنسانية، هي ذات قدرة على التمدد خارج حدود الكيانية السياسية، لذلك لا نستطيع أن نعزل الثقافة المغربية عن محيطها الثقافي العربي الإسلامي. إنها جزء من هذا المحيط بمعان متعددة، تاريخيا، سواء تعلق الأمر بالثقافة العالمة، فنحن جزء من هذا الفضاء العربي الإسلامي، تاريخنا من تاريخه أدبنا من أدبه، فقهنا من فقهه، فلسفتنا من فلسفته، ولا نستطيع أن نخترع قطيعة فقط لكي نرضي شغفا وطنيا زائدا لدينا.
ثانيا في الثقافة التي نسميها الثقافة الجماهيرية، نحن نتصل شديد اتصال بذاك الذي يفشو في الدائرة العربية المحيطة، ولا مجال لاختراع حوائل بيننا وهذا الفضاء، الذي يصدق على مغربية هذه الثقافة، يرتبط حصرا بالثقافة الشعبية، وليس الثقافة التواصلية والعالمة. ففي الثقافة الشعبية هناك ما هو خاص بنا تماما وهناك المشترك. المشترك تفعل فيه عوامل دينية وتاريخية والانتشار الأفقي للرموز الثقافية من أساطير وحكايات. والتثاقف في تعبيرات ثقافية من رقص وموسيقى وغيرها، لكن هناك ما هو خاص جدا بالمغاربة، ويتعلق بتركيبتهم الأنثروبوثقافية التي تختلف عن تركيبات ثقافية مجاورة كالتي توجد في الجزائر وتونس ومصر وغيرها.
على هذا المستوى يمكن الحديث عن خصوصية ثقافية مغربية، أما الثقافة العالمة فلا توجد خصوصية. قد يقول قائل: وماذا عن الثقافة العالمة المعبر عنها بألسن غير عربية؟ سأقول إن ثمة صلة حقيقية ما بين قسم من النخب العالمة والثقافة الغربية، وخاصة الغربية في المجال الفرنكفوني، لكن يعسر علي تماما، علميا وسيكولوجيا، أن أحسب ذلك جزءا من الثقافة الوطنية. إنه جزء من تفاعل الثقافة مع محيطها، بينما العروبة ليست طارئة بهذا البلد، لكن الفرنكفونية حادث ثقافي عرضي. بينما العروبة هي رابطة داخلية، ولم تكن مفروضة بالغزو القسري. فالذين عربوا البلد هي دول ذات أصل أمازيغي، كالمرابطين والموحدين وغيرهم. فلم تقم سلطة خارجية بفرض الثقافة العربية. لذلك فالعروبة هي رابطة وطنية داخلية، بهذا المعنى أفهم عبارة الثقافة المغربية.

كيف تنظرون، اليوم، للتفاعل بين مكونات هذه الثقافة المغربية، سيما وأن أبسط «الحوادث» تكشف وجود تعصب، يساهم فيه الكثير من بعض المحسوبين على الطبقة المثقفة؟
هذا نتيجة إدخال إشكاليات ذات طبيعة ثقافية صرفة في سوق المضاربات السياسية، فعندما يتم التعبير عن الثقافة بمفردات سياسوية، تفسد السياسة والثقافة معا، لذلك فهذا العصاب الجماعي الذي أصيب به الجميع هو نتيجة الخلط الشنيع بين الثقافة والسياسة. فخذ مثلا حالة المجتمعات المتعددة ثقافيا. ومع ذلك تجد فيها أن حركية التعبير والتواصل والحوار المتبادل بين مكونات المشهد الثقافي، تحافظ على السلم الثقافي، حيث التبادل الاجتماعي للقيم، واحترام أخلاق المناظرة، حيث استوطان القيم الديمقراطية. فلا حياة ثقافية إن لم تكن منضبطة لجملة من القواعد، تماما كما لا حياة سياسية منضبطة لقواعد ديمقراطية، من قبيل التنافس الشريف بدون إقصاء، والاحتكام للشعب وللقانون، إذا خلت الحياة السياسية من هذا دخل المجتمع في ما أسميته قبل خمسة وعشرين سنة، حالة الحرب الأهلية الفكرية، وهي منعرج خطير في أي مجتمع، لأنها قد تؤدي في حال الاستفحال إلى حالة الحرب الأهلية الفعلية، لأنها تمارس تعبئة عصابية للجمهور، وتقسم الشعب إلى مجموعة من الهويات والكيانات المقفلة على نفسها، والممارسة لأعتى أشكال العنف اللفظي في ما بينها، وتكوين الأجيال الجديدة على ذلك، الأمر الذي يفقر المجتمع من الشعور بالانتماء إلى وطن، ونصبح مجموعة خنادق تتقاتل وتتراشق. فعندما تتم تنشئة المرء على هذا النحو، ويدخل الحياة السياسية، ماذا سننتظر منه؟
فما من مؤسسة تنشأ إلا على أساس فكرة ثقافية، فالفكرة الثقافية العرجاء تنتج كيانات سياسية عرجاء، لذلك فهذه المجتمعات المفتوحة التي تحول التنوع إلى مصدر إخصاب، وإنماء للشخصية الثقافية الوطنية، تنجح في هذا المسعى لأنها تنجح في إرساء الثقافة الديمقراطية الحقيقية، من قبيل الحوار والاختلاف. أما قيم الإلغاء والنبذ والتحريض والتشنيع فلا تولد إلا الأحقاد، بل ولا تنتج ثقافة أصلا. فهي تبتذل معنى الثقافة، وتتحول الثقافة إلى مجرد حجارة نتراشق بها سياسيا. وهذا ما أرجو أن يفهمه العقلاء منا، لتجنب المنحدر الذي ننعطف إليه.

ما هي مسؤولية الدولة في هذا الوضع المقلق؟
أولا الدولة لا تنتج ثقافة، فالذي ينتج ثقافة هم الأدباء والشعراء والعلماء والمفكرون والمؤرخون وغيرهم، فليست هناك ثقافة للدولة، فدورها هو أن تنظم الحقل الثقافي. لكن قبل مساءلة الدولة، علينا أن نسائل أولا أهل الثقافة ماذا فعلوا إزاء ظواهر شاذة نعيشها كل يوم في مضمار المناكفات والمناقرات الثقافية بين زيد وعمرو؟ هل قاموا بأدوارهم في ترسيخ قيم الحوار والمناظرة والاستماع للآخر؟ هذا هو السؤال المطروح. صحيح أن الدولة مطالبة، ليس بالمعنى الأمني، بل بالمعنى الوطني والأخلاقي بأن تضع لهذا الحقل ضوابط. فأنا أعرف مثلا، بكل أسف شديد، أن العروبة واللغة العربية تُشتمان صباح مساء في هذا البلد، لكن لا أحد ممن يحسبون على العروبة أو يسمونه عروبيا تطاول مرة على الأمازيغية، ولو فعل ذلك لقامت الدنيا ولن تقعد. ومع ذلك تتعرض اللغة العربية لامتهان يومي، وتمرغ كرامتها في الأرض والدولة لا تتدخل، علما أن هذا يولد ردود فعل تتحول إلى مشكلة أمنية. لذلك على الدولة أن تتدخل أولا لتجريم كل أفعال العنف الثقافي التي تمارس من طرف هذا الفريق أو ذاك، وأن ترسم خطا أحمر لعدم الاعتداء على حرية الرأي وحرية الاعتقاد، وأن يجري التعبير عن الأفكار دون تجريح أو إهانة أو عنف لفظي، لأن هذا شرط لضمان الاستقرار الثقافي الذي يعد شرطا للاستقرار الوطني. بهذا المعنى يمكن أن نحاسب الدولة. لكن قبل هذا علينا أن نسائل أهل الثقافة على صعيد تهوية هذا المناخ المختنق بكل أنواع الاحتقانات والشوائب والأمراض، وإعادة الثقافة إلى أدوارها كآلية مهمة للتنمية الوطنية. إذن إن كان لا بد من نقد، فهو نقد مزدوج، للدولة وللمجتمع.

هذا الاحتقان الثقافي كما أسميتموه- أستاذ بلقزيز- لم يقف عند حدود الثقافة بمعناها المباشر، بل انتقل لمجال التعليم، والمثير هنا أنه بدل أن يكون النقاش في مستوى المجتمع، انخرطت الدولة أيضا في هذا الاحتقان. والصراع الأخير بين رئيس الحكومة ووزير التعليم خير دليل على ذلك.. كيف تنظرون لهذا؟
دعني أقول بكل صراحة، إن كل محاولة للنيل من مركزية اللغة العربية في التعليم، هي انتهاك سافر للدستور، وعلى من أتاه أن يتحمل وزر المساءلة القانونية لخرقه الدستور. فالدستور لا ينص على كون اللغة الفرنسية لغة رسمية للدولة، ومن ارتضى ذلك ينبغي مساءلته قانونيا. فدستور البلاد واضح، وأي إجراء لإصلاح التعليم ينبغي أن يلحظ ثوابت الدستور.
ثانيا، أعرف تماما أن موضوع مستقبل هذه اللغة في التعليم دخل سوق المزايدات السياسية، والحال أن العرف جرى في الديمقراطيات العريقة، على أن مسائل الهوية لا تكون موضوع منازعات سياسية. نحن يمكن أن نغير الخيارات الثقافية والاقتصادية، ولا يمكن أن نغير هويتنا بقرارات، لأن الهوية هي نتاج آلاف السنوات ولا يتم تغييرها بقوانين. فاذهبوا وتصارعوا في السياسة بمفردات السياسة ودعوا ثوابت البلد ومقدساته بعيدة عن هذه المناكفات.
ثالثا، ما من شعب وما من دولة يحترمان نفسيهما يبنيان تعليما بألسن غيرهما. فالصين واليابان وكوريا والهند وتركيا بنوا تعليمهم بلغاتهم الوطنية، بل وحتى الكيان الصهيوني بنى تعليمه باللغة العبرية. نحن فقط من دون الأمم يراد لنا أن نبني تعليما بلغة الأجانب. أنا ليست لي مشكلة في أن تكون الأمازيغية لغة لتدريس الفيزياء إن كانت قادرة على ذلك، لكن أما وأن اللغة العربية كانت وماتزال وستظل قادرة، فلا أجد مبررا لهذه الحرب التي فتحت على اللغة العربية من طرف نخبة فرانكفونية تدافع عن لغة آفلة لا ريب فيها. مع الإشارة هنا إلى أني من دعاة الانفتاح على اللغات العالمية واكتسابها والتمكن منها. لكني أحسب أن فرض الفرنسية علينا هو تحجيم لطموحنا وعزل لنا وليس انفتاحا لنا. فاللغات الكبرى اليوم هي الإنجليزية والصينية والإسبانية، هذه هي اللغات الحية اليوم. فإذا كانت هذه النخبة تعيش مشكلة مع اللغة العربية فهذه مشكلتها الخاصة، وينبغي أن يعرفوا أنهم يلعبون في مكان محظور، محظور دستوريا ووطنيا.

لننتقل إلى محيطنا العربي، كيف ترون اليوم العالم العربي بعد زلزال 2011، أي بعد ما بات يعرف بـ«الربيع العربي»؟
ما سمي «الربيع العربي» هو ابتلاء امتحن المنطقة العربية، شعبا ودولا وثقافة ومصيرا، فقد تطلع أغلبنا إلى أن تكون هذه الأحداث مناسبة للتصحيح وإعادة بناء مجال سياسي حديث، فإذا بنا ننتهي للحروب الأهلية والتفكيك. لا أريد أن أتحدث عن المؤامرة، ولكني أؤمن بأن هذه الأمة التي اختبرت محنا شبيهة قادرة على الخروج من هذا النفق المظلم. ليس تمنيا، بل هو اتعاظ من دروس التاريخ.

لكننا لاحظنا أيضا أن مآلات هذا «الربيع العربي» هي اكتساح التيارات الإسلاموية من باب صناديق الاقتراع. هذا في أحسن الأحوال، وفي أسوئها لاحظنا ظهور تيارات إسلامية لم تشهد المنطقة العربية شبيها لها في عنفها وإرهابها.
أولا دعني أقول إن الديمقراطية ليست هي صناديق الاقتراع، فهذه ليست معملا لإنتاج الديمقراطية، بدليل أن النازية خرجت هي أيضا من صناديق الاقتراع. واختزال الديمقراطية في صناديق الاقتراع ابتذال للديمقراطية، فهي لا تقوم إلا إذا توفرت فيها جملة من الشروط، ومنها أن تقوم العلاقة بين مكونات هذا المجتمع على قاعدة تعاقد اجتماعي. والعقد الاجتماعي هو أن يقع التوافق المجتمعي على نظام اجتماعي وسياسي، حينها لن يخشى أحد أحدا، فإذ صعد اليسار للسلطة لا يخشى اليمين على نفسه، وإذا صعيد اليمين لا يخشى اليسار. وهذا ما نلحظه في أوربا، فإذا صعد الاشتراكي للسلطة يطمئن اليميني لأن مصالحه لن تمس، والعكس صحيح. أما عندنا فالعكس هو الذي يحصل، فإذا صعد اليميني فإن فرائص اليساري ترتعد، وإذا صعد اليساري فإن فرائص اليميني ترتعد، لأنه لا يوجد توافق، حيث يحترمه الجميع. إذن الشرط الأول هو العقد الاجتماعي المتوافق عليه.
الشرط الثاني هو الفصل القاطع بين المجالين الديني والزمني، فالمجال الديني هو مجال الإيمان، والمجال الزمني هو مجال المواطنين. فمجال الدين هو مطلق المطلق أما مجال السياسة فهو مجال النسبي، وهذا الخلط بين هذين المجالين هو ما ندفع أثمنته الباهظة.
أما الشرط الثالث فهو أن تكون الديمقراطية ابتداء حصيلة لثورة ثقافية وفكرية. ففي أوربا، فآخر محطات التطور هي الدولة الديمقراطية، إذ بعد إنجاز النهضة والثورة العلمية والإصلاح الديني تم بناء دولة ديمقراطية. وبلغة أخرى، لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين. فكيف نبني مجتمعا ديمقراطيا؟
فالأسرة في مجتمعنا غير قائمة على علاقات ديمقراطية، إذن يتربى النشء في الأسرة على قيم غير ديمقراطية، والمدرسة نفس الشيء لا ديمقراطية فيها. فيكبر المرء وينتمي لأحزاب، فيجدها غير ديمقراطية، والنقابات أيضا ليست بيئات ديمقراطية. فمن أين سنخرج هؤلاء الذين سيبنون النظام الديمقراطي؟ فالديمقراطية تبنى بالأسس التحتية، من الأسرة فالمدرسة فالحي والحزب، إلى أن نصل بها إلى مؤسسات الدولة. فقبل قليل تكلمنا عن غياب القيم الديمقراطية بين النخب المثقفة، فما أدراك بعموم الناس. ففي مجتمع لا توجد فيه بيئات ومؤسسات تنشئ المرء على الديمقراطية، وليس فيه عقد اجتماعي مبني على توافقات مجتمعية، وفي مجتمع تحول رجال الدين إلى ساسة، ويتحول الساسة إلى مختصين في شؤون الدين، في مثل هذا المجتمع كيف لنا أن نراهن على قيام الديمقراطية؟ فالديمقراطية استحقاق طويل النفس وليس مجرد كلمة. فلا يكذبن علينا أحد بالقول إن الديمقراطية هي وصفة، من قبيل نزاهة في الانتخابات وصناديق اقتراع. فنزاهة الانتخابات قد تعطيك نازية جديدة، وقد أعطتنا نازية جديدة في مصر. وكان يمكن أن يتكرر ذلك في سوريا أو في أي بلد عربي آخر. لذلك قلت إن «الربيع العربي» لم يطرح على جدول الأعمال إقامة نظام ديمقراطي، بل فقط إسقاط أنظمة، وإسقاط الأنظمة ليس معناه إقامة نظام ديمقراطي.

في سياق جوابكم، استعملتم مفاهيم تنتمي للحداثة السياسية، كما أنكم استشهدتم بأمثلة تنتمي للحداثة الغربية، هل تعتقدون أن طريق التحديث واحد هنا وهناك، أم أن هناك طرقا متعددة؟
الحداثة قانون كوني ما من شك في ذلك، غير أنها أفق تقتحمه المجتمعات حسب خبراتها التاريخية والاجتماعية والثقافية. لذلك، فالنموذج الأوربي ليس نموذجا واحدا، بين مختلف المجتمعات المكونة لهذا النسيج المسمى غربا، ونفس الشيء فالنموذج الأوربي أو الأمريكي ليس هو الياباني أو الكوري أو التركي أو البرازيلي. لسبب بسيط هو أن الميراث الحضاري والثقافي في بلد كاليابان، والأمر ذاته في الديمقراطيات الأخرى، بل إن النموذج الأمريكي يختلف عن الأوربي. إذا أخذنا بعض عناوين الحداثة، وهو العلمنة، فالنموذج الفرنسي ليس هو النموذج التركي أو الأمريكي أو البريطاني. فالقطيعة التامة التي أُحدثت في فرنسا ليست هي الانفتاح الحاصل في بريطانيا أو ألمانيا. والنماذج العنيفة في العلمانية دوما تولد نقائضها، فالنموذج التركي سمح بصعود الإسلاميين للسلطة، وفي فرنسا أكثر من نصف السكان يتعاطون للعرافة، وذلك نتيجة إقصاء القوانين التي تقصي الدين من الحياة العامة، وإهمالها مكونا أساسيا من مكونات الوجود الإنساني، هو المكون الروحي. وإذا أخذنا عنوانا آخر للحداثة السياسية وهو الديمقراطية، فالأنظمة الملكية في السويد وإسبانيا وبلجيكا ليست هي الأنظمة الرئاسية في فرنسا أو إيطاليا أو ألمانيا، بل هناك اختلافات حتى بين الأنظمة الرئاسية ذاتها. إذن ليست هناك وصفة واحدة للحداثة، فاليابانيون والصينيون جزء من الحداثة اليوم لكنهم يبنون حداثتهم الخاصة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى