الرأي

عصمان يعارض كديرة في قضية الصحراء

رأيت الوزير الأول أحمد عصمان غاضبا، على غير عادته في إخفاء مشاعره كلما تعلق الأمر بقضية تفرض تحكيم العقل. كان يتسلح دائما بالمروءة والصبر والقدرة على استيعاب اللحظة. لا ينقاد إلى الانفعال ولا ينصاع لردود الأفعال. فتلك ميزة جنبته اقتحام هوامش المعارك والصراعات. واصطف إلى يمينه ويساره رجال يصارحونه بالحقائق. لذلك لم يتخذ قرارا من دون وضعه على محك القراءات المتباينة.
في إقامته متسع للرحابة وقليل جدا من المحاباة. تعلم من مروره بالسفارة المغربية في واشنطن، أن يكون صريحا بما تتيحه الأوفاق الدبلوماسية، وجرب، عبر مسؤولياته في الوزارة الأولى، أن يكون رجل توافقات مبدئية.. لكن تحمله مركز الثقل في الكتابة العامة لوزارة الدفاع، ثم وزيرا للشؤون الإدارية ورئيسا للشركة المغربية للملاحة ومديرا عاما للديوان الملكي، مكنه من الإلمام بملفات حساسة. ولم يزعم يوما أنه يعرف أكثر، كما لم يدع أن باب المعرفة أوصد في وجه الراغبين في تعلم فن السياسة. وإن لم تكن هذه التجارب أهلته لتولي الوزارة الأولى، فإن انفتاحه وتواضعه أضفيا عليه حضورا يليق بالرجل والمنصب.
أعتقد جازما أنه على رغم انتخابه رئيسا للبرلمان وزعيما لتجمع الأحرار، فقد حرص على أن يكون قليل الكلام، يزن عباراته بقياس دقيق. وكم من مرة علمت أنه حذف فقرات من خطبه لأنه رأى أنها جارحة للمشاعر. فهو، في النهاية، لم يكن يخوض معارك حزبية في مواجهة الأشخاص، بل يعتمد منهجية الرد على الفكرة بالفكرة والموقف بالموقف، ما جعله يحظى بتقدير خصومه السياسيين. وكنت شاهدا على دعوات صدرت منه لناحية الترفع عن الحزازات، يقينا منه أن الزمن كفيل بإقناع أشد الناس خصومة لتجربته. وفاتحته مرة بشأن معارضين شباب خارج البلاد، فأبدى حماسا للمساعدة في تمكينهم من جوازات السفر للعودة، قائلا: إن في إمكانهم الاستمرار في ممارسة المعارضة، لكن من الداخل.  ولن أذيع سرا إن قلت إن اهتمامه كان ينصرف بقوة إلى الانتخابات المحلية، باعتبارها قاعدة الهرم. وقال، بهذا الصدد في مناسبات عديدة، إن ميثاق العمل الجماعي كان متطورا في توقيته ومضمونه، ويتعين الانطلاق منه نحو المزيد من التطوير، مضيفا أن الديمقراطية المحلية هي المعيار، لأنها تقفز فوق النزاعات والخلافات الإيديولوجية.
أسوق الكلام لأني رأيته ذلك الصباح، وقد أصبح شخصا آخر، ارتسمت على ملامحه علامات الاستغراب والتعجب، وهو يردد: ماذا يريد هذا الرجل؟ كان سؤاله حذرا وواقعيا يذهب إلى ما هو أبعد من التعاطي وتصريحات صدرت عن المستشار أحمد رضا كديرة. لم يكن يحتاج لإحالة على الوضع الاعتباري للمستشار، بما يفيد أن كلامه لا يمكن أن يأتي من فراغ. ومع ذلك أصر أحمد عصمان على مواجهة الموقف بشجاعة نادرة.
يصعب الإقرار إن كان حسم أمره بمبادرة شخصية، أو تلقى ما يشجع على المضي في ذلك الاتجاه. والأهم أنه اقتنع بوجاهة الموقف الذي أملاه عليه ضميره، دونما الالتفات إلى ما يمكن أن يترتب عليه من مضاعفات، أقلها أنه كان يعرف أن مكانة المستشار كديرة أكبر من أن تدفعه إلى «الطيش» في التعبير عن موقف مفاجئ. فالرجلان، عصمان وكديرة، يشتركان في أنهما أقرب إلى التفكير العقلاني، واجتازا بوابة الديوان الملكي في مراحل جد حرجة.
أدركت، على رغم صغر سني وحداثة تجربتي، أن المسألة تتجاوز أخذ تصريح صحفي، يسجل ضمن مواقف الزعيم الحزبية. ورأيت عصمان، قبل أن يسترسل في الكلام، ينقب في أوراق انتقاها بعناية. كانت تخص مجمل المواقف الصادرة عن الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية بخصوص قضية الصحراء. ومع أنه شارك في التأثير الإيجابي في تلك القرارات وصنعها، وفق ما يدعم الحقوق الشرعية للمغرب، فقد أزال عن كاهله رداء المسؤوليات الرسمية، وصار يتعامل معها كرجل قانون وسياسة وباحث موضوعي عن مكامن أي ثغرات محتملة.
عندما يتحدث كرجل قانون لا يبعد متاهات ونتوءات السياسة، وعندما يحلل الوقائع من منظور سياسي لا يلغي الاجتهادات القانونية. فبين الدبلوماسية والقانون الدولي زواج كاثوليكي لا تنفصم عراه. ومن الدبلوماسيين من أبحر في القانون عبر سفن التجارب والمقاربات وفن بناء صرح العلاقات.
في اليوم السابق لذلك اللقاء، ألح علي أحمد عصمان بالتوجه إلى وزارة الخارجية والبحث في الأرشيف عن جميع القرارات الدولية ذات الصلة. لعله كان يريد الاستئناس بها، خصوصا في المحور الذي يصنف ملف الصحراء كنزاع إقليمي بين المغرب والجزائر. لكن تصريحات المستشار أحمد رضا كديرة إلى مجلة «جون أفريك» تساءلت وقتذاك عن آفاق المفاوضات، ولم تلغ إمكانية أن تشمل قياديين في جبهة بوليساريو. ما اعتبر خروجا عن الإجماع وإذعانا للانعطاف بالملف في غير أصله وخلفياته وأبعاده.
أعلنها أحمد عصمان صراحة، واستنكر تلك التصريحات، ثم توالت ردود فعل منددة بما وصفته «انحرافا» سياسيا. وكان من نتاج تلك التطورات أن المستشار صمت عن الكلام وأعاد النظر في ذلك الطرح الذي اعتبر قناعة شخصية. وتبين لاحقا أن المسألة كانت بالون اختبار بخلفيات إقليمية، همت تعبيد الطريق أمام جولة من الحوار المغربي – الجزائري الذي لم يتم.
وظل أحمد عصمان على قناعة بأن بعض التطورات، إنما تتوخى إبعاد الجزائر عن ضلوعها المباشر والمستمر في إذكاء التوتر.. أين نحن الآن من خلاصات الرجل؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى