شوف تشوف

شوف تشوف

فهمتوني غلط

كعادته كلما «طبز» بنكيران «ليها العين» اتهم مستمعيه بعدم الفهم وتحميل كلامه ما لا يحتمل. وقد كان منتظرا أن يخرج ليقول إن مهاجمته للزيارات الملكية في إفريقيا، عبر جملته التي قال فيها إنه من غير المعقول أن يفك الملك كربات شعوب إفريقية ونهين الشعب المغربي، لم يكن يقصد بها ما ذهبت إليه الصحافة المغرضة.
«كاين شي مغرض قدك يا الخويويف» ؟
إن ما قاله بنكيران واضح ولا يحتمل أي تأويل، وهو رسالة مكشوفة أراد لها بنكيران أن تذهب مباشرة نحو من يهمه الأمر، وكعادته عندما تؤدي رسائله وظيفتها يتراجع ويتهم الصحافة بتحريف أقواله، وهي تقنية أصبحت مبتذلة لفرط ما كررها بنكيران لسنوات طويلة.
والواقع أن بنكيران يبحث لكي يحشر المؤسسة الملكية في قلب الصراع السياسي الحزبي وذلك عبر الإيحاء للرأي العام بأن عرقلة تشكيل الحكومة مصدرها القصر وأن كلفة هذه العرقلة كما قال حلوطي النقابة التابعة لبنكيران هو 200 مليار شهريا، أي أن القصر يكلف الشعب شهريا 200 مليار خسارة، وهي إهانة للشعب المغربي في الوقت الذي يذهب فيه الملك لكي يفرج كربات بعض الدول الإفريقية.
هذا بالضبط هو ما يسعى بنكيران وحزبه وحركته ونقابته لترسيخه في عقول المغاربة، إذا كنتم تعانون من تردي الخدمات الصحية فلأن الملك يوزع الدواء على مرضى الدول الإفريقية ويبني لهم المستشفيات، وإذا كنتم تعانون من السكن غير اللائق فلأن الملك يبني المدن في الدول الإفريقية، وإذا كانت كربتكم تزداد يوما عن يوم اشتدادا فلأن الملك ذهب يفرج كرب الشعوب الإفريقية.
وإذا كانت أرقام البطالة قد تفاقمت وعدد المقاولات التي أفلست ارتفع فلأن الاحتباس الحكومي، والذي مصدره القصر، يكلف دافعي الضرائب 200 مليار شهريا.
وإذا كان بنكيران قد تأخر في اتخاذ قرار بشأن تشكيل الحكومة من عدمه ودخل في الشهر الخامس من البطالة الحكومية فليس بسببه هو بل بسبب الملك الذي يوجد خارج المغرب والذي ينتظر بنكيران عودته لاتخاذ قراره النهائي.
وهكذا فكل ما هو سلبي يلصقه بنكيران بظهر الملك، مجتهدا في تقديم نفسه كحمل وديع وكضحية لحسن نيته ولتفريطه في صلاحياته الدستورية، طمعا في تعاطف الشعب معه، علما أنه هو من طحن الشعب طوال الخمس سنوات الماضية.
هذا بالضبط هو محتوى الرسائل التي يصر بنكيران على حشوها داخل رؤوس المغاربة، وطبعا فبنكيران يعرف أن ستين بالمائة من المغاربة أميون، وأن نسبة القراءة لدى المتعلمين لا تتعدى 1,5 بالمائة، وأن ثقافتهم سمعية مبنية على ما تلتقطه آذانهم من المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي التي تتناقل تصريحات بنكيران وتأخذها كحقيقة مطلقة لا تقبل الجدل.
والخطير في ما قاله بنكيران أن الأغلبية من أصحاب الأفهام البسيطة التي لا قدرة لها على استيعاب البعد الإستراتيجي الطويل المدى لما يقوم به الملك في إفريقيا تصدقه، بل تصفق له معتبرة كلامه جرأة وشجاعة سياسية، فيما هو في الواقع كلام للمزايدة السياسية هدفه الضغط على المؤسسة الملكية عبر حشرها قسرا في النقاش السياسي الدائر حول تشكيل الحكومة.
في الدول الديمقراطية التي تفهم دور الإعلام العمومي وأهميته وخطورته يمكن أن يسود مثل هذا الخطاب، بحكم أن الفاعل السياسي حر في آرائه ومواقفه، لكن بالمقابل يقوم الإعلام العمومي بدوره في شرح وتبسيط الأهداف البعيدة المدى لما يقوم به الملك من زيارات لبلدان إفريقية، وذلك عن طريق ندوات وبرامج يومية تعالج هذا الموضوع من زواياه المختلفة.
ما يحدث عندنا هو العكس تماما، ففي الوقت الذي يقوم فيه الملك بمجهود خرافي لوضع المغرب في قلب المعادلة الإفريقية، نرى كيف يكتفي الإعلام العمومي بالحد الأدنى من الجهد، بحيث يكتفي بنقل إقلاع ووصول الطائرة الملكية وحفلات الاستقبال والتوقيعات والوداع.
والحال أن الرأي العام المغربي يحتاج لمواكبة يومية ونقاش مستفيض لما يقوم به الملك لصالح المغرب في إفريقيا وكيف سيستفيد أبناؤنا من ذلك في المستقبل.
لأنه في غياب هذا الجهد الإعلامي لتوضيح هذه الرؤية المستقبلية سيبقى المجال مفتوحا أمام أمثال بنكيران لتقديم الزيارات الملكية لإفريقيا كمجرد تفريج لكرب شعوب إفريقية على حساب الدوس على كرامة المغاربة.
إذن فالخطأ ليس خطأ بنكيران، فهذا شخص يمكن أن تتوقع منه أي شيء، بل الخطأ خطأ القطب الإعلامي العمومي المتجمد الذي لا يقوم بواجبه الإعلامي في تنوير الرأي العام بما يقوم به ملكه من عمل جبار.
فالمكان الذي يجب أن يفتح فيه النقاش العمومي حول هذه الثورة التي يقودها الملك هو الإعلام العمومي، لكن هذا الإعلام العمومي المعول عليه مصاب بدوره بسكتة دماغية وحالة إغماء عميقة بدأت منذ قرر الماسكون بملفه إغلاق المجال في وجه النقاش العمومي قبل سبع عشرة سنة.
لقد آن الأوان لكي يقطع الإعلام العمومي المغربي مع سياسة التجهيل والتمييع و«الاستحمار» التي يشنها يوميا على المغاربة. ما عاد مقبولا أن يستمر الإعلام العمومي في إجبار المغاربة على الهجرة نحو الفضائيات بحثا عن برامج يفقهون بها أنفسهم وأبناءهم في الدين والسياسة والثقافة، في الوقت الذي يمولون من جيوبهم ميزانيات إعلام عمومي يقتل فيهم الغيرة الوطنية والدينية ويحطم النواة الصلبة لعائلاتهم بسبب كل تلك المسلسلات الهجينة التي يستوردها ويحشو بها عقول ومخيلات أبناء وبنات المغاربة.
لقد كان المغرب سباقا قبل عشرين سنة إلى إنشاء أول قناة خاصة اسمها «القناة الثانية»، شكلت في بداياتها هامشا حقيقيا للنقاش العمومي الحر والجريء، فظهرت برامج حوارية سياسية ينشطها صحافيون أكفاء، ساهمت في إفراز نخبة سياسية ومثقفة استطاع كثير من «نجومها» أن يعبروا من بلاطوهات التلفزيون إلى كراسي الحكومة، فكانت برامج القناة السياسية عبارة عن كاستينغ يختار في نهايته الملك الراحل الحسن الثاني من يصلح لتقلد المسؤولية.
واليوم، بعد مضي أكثر من سبع وعشرين سنة على إنشاء هذه التجربة الإعلامية، أصبحت هذه القناة متخصصة في نقل سهرات الكباريهات الرخيصة، وعرض المسلسلات التافهة التي تحطم النسيج الأسري المغربي عبر تهييج مشاهديها جنسيا بتلك الأجساد المستوردة من دول أمريكا اللاتينية والهند وتركيا وغيرها من الثقافات البعيدة عن ثقافة المجتمع المغربي.
أما البرامج الحوارية التي يريد المشاهد المغربي متابعة قضاياه ومشاكله ومشاغله عبرها، فقد أصبحت شبه محظورة في قنوات الإعلام العمومي.
هذه، إذن، هي القطاعات الثلاثة التي تحتاج إلى ثورات داخلية عاجلة وهادئة، إعلام عمومي في خدمة قضايا المواطنين، وعدالة تنتصر لحقوق المظلومين، وأحزاب سياسية تعطي الأسبقية لمصالح الشعب وقضاياه العليا على مصالح الزعماء الشخصية ومصالح ذويهم وأقربائهم.
إن أحد أهم أدوار التلفزيون العمومي هو الترفيه والتثقيف والإخبار، ويبدو أننا في المغرب قلبنا الآية مع دخول التلفزيون المغربي عهد القطب العمومي المتجمد، فأصبح أحد أهم أدوار التلفزيون هو الإشهار. ومن يتابع سيل الوصلات الإشهارية التي تبدأ لكي لا تنتهي تكاد تختلط عليه الأمور ويتصور أنه بصدد متابعة قنوات خاصة تبحث عن الربح، عوض قنوات عمومية يمولها المواطنون من ضرائبهم كل شهر من أجل إخبارهم وتثقيفهم والترفيه عنهم.
إن أحد أدوار الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري هو أن تقنن الحيز الزمني لمرور الوصلات الإشهارية في فترة الذروة في القنوات العمومية. فهذه القنوات لا يجب أن يكون هدفها استغلال رمضان لمراكمة الأرباح، لأننا كمواطنين ندفع لميزانيات هذه القنوات ضرائب شهرية. بل يجب أن يكون هدفها الأول والأخير تقديم خدمة إعلامية عمومية تحترم ذوق المشاهد وترقى به نحو الأعلى، حتى يصبح محصنا من الدجل الذي يحشو به بنكيران وحركته رؤوس المغاربة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى