شوف تشوف

الرأي

فيض لا ينتهي من الأسئلة

معلوماتنا في أبحاث الذاكرة ليست إلا معلومات سطحية لم توصلنا إلى أعماقها القصية بعد، وينطبق هذا الشيء على فهم كيف يعمل العقل؟ وكيف يتم التفكير؟ وما هي الإرادة؟ وأين يكمن الوعي واللاوعي أو ما يسمى بالشعور واللاشعور؟ وكيف يحصل فهم المسموعات والمبصرات؟ وقلبها من صورة إلى معاني؟ وكيف تستنبط الأفكار المجردة من خلال المحسوسات؟ وما هو الذكاء؟ وكيف يتم التخيل والابتكار؟ وكيف يحصل الإحساس الجمالي؟ وكيف يتم الإحساس الخلقي؟ وكيف تنمو الجرأة الأدبية؟ وكيف تتم الأحلام؟ وكيف تتحقق التنبؤية للمستقبل؟ وما هي علاقة الأعضاء بالنفس، وكيف يؤثر كل واحد على الآخر؟ إلى فيض لا ينتهي من الأسئلة التي لا تجد جواباً. ولذا فإننا سوف نختم أبحاثنا عن الذاكرة بالمعلومات السطحية التي يلمسها الوعي مباشرة [يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون] سورة الروم.
ومن جملة هذه اللمسات السطحية السؤال التالي: هل بالإمكان تقوية الذاكرة وتنميتها؟
إن الشيء الذي يقره الطب، والذي تأكد منه علماء النفس هو أن هذا الشيء هو في مقدور الإنسان، ولكن ما هي الشروط التي تتدخل حتى تنمو الذاكرة؟
بين يدي الآن وبشكل مختصر (12) عاملاً تتدخل في تنمية الذاكرة وتقويتها.
ومن هذا الرقم نعرف مدى تعقيد الجملة العصبية، ودقة تركيب الإنسان، فما هي هذه العوامل؟
اثنا عشر عاملاً تتدخل في تنمية الذاكرة وتقويتها:
1 ـ التقوى: أو ما نسميها بالنظافة النفسية الداخلية، ولعل سائلاً يقول وما هو أثر التقوى في الحفظ أو الذاكرة؟ والجواب أن التقوى تحدث حالة نفسية عجيبة هي مزيج من الهدوء، والاهتمام، والخشوع، والتقدير، والتأمل، والتدبر، ووزن الأمور، وهذا المزيج ينتج حافظة هائلة وعندما نتذكر بعض الحوادث عن العلماء المسلمين الأقدمين فإننا نعرف كيف يتدخل هذا العامل في الحافظة أو الذاكرة.
ونقتطف من هذه الحوادث الحادثتين التاليتين:
أ ـ حادثة الإمام البخاري صاحب كتاب الصحيح المشهور عندما قدم بغداد: فقد أراد بعض طلاب الحديث اختبار ذاكرته فأعدوا له (10) طلاب، وكل منهم قد حفظ (10) أحاديث بشكل مغلوط، وصورة الغلط هو خلط متون الأحاديث بأسانيدها، ولما حضر الإمام البخاري وروى له الطالب الأول الأحاديث العشرة الأولى المغلوطة، وكلما روى له حديثاً يقول الإمام البخاري لم أسمع بهذا.
فأما العلماء فقالوا علينا التريث لننظر في أمر هذا الرجل، وأما الجاهلون فقالوا إن الرجل لا يعرف شيئاً!!
وهكذا سرد عشرة طلاب مائة حديث مغلوط، ولما انتهوا قال الإمام البخاري للطالب الأول ذكرت الحديث الفلاني وروى له الحديث بمتنه، وذكرت أنه عن فلان، وروى له السند الذي رواه الطالب، والحديث ليس كذلك بل هو عن فلان عن فلان وصحح له الحديث، وهكذا حتى صحح الأحاديث العشرة، بحيث نقل المتون إلى أسانيدها التي تلائمها، واستمر في تصحيحه لكل طالب حتى انتهى من المائة حديث.
والعجيب في هذه القصة هو أولاً حفظه المائة حديث المغلوط، لمجرد سماعه لها للمرة الأولى، ثم تصحيحه الفذ من ذاكرته الجبارة، ويكفي أن نعلم عن هذا الإمام أنه اختار أحاديثه الصحيحة وهي أقل من (5000) آلاف حديث من (100) ألف، ولم يكن يكتب الحديث في صحيحه إلا بعد صلاة استخارة، وكان يستيقظ في الليلة الواحدة أكثر من عشرين مرة، ليسجل في كراسه كلمة أو جملة أو اسم عالم أو بعض ألفاظ حديث أو أشياء أخرى..
ب ـ حادثة شمس الأئمة السرخسي من فقهاء الحنفية: سأل تلاميذه مرة كم كان يحفظ الإمام الشافعي؟ فأجابوه بأنه كان يحفظ (300) كراس عن ظهر قلب فأجابهم: إن الإمام الشافعي يحفظ زكاة ما أحفظ أنا أي (12000) كراسا، وكتابه المبسوط في الفقه الحنفي يتألف من 30 جزءً ويقع في آلاف الصفحات، وقد أملاه على تلاميذه وهو مسجون في بئر، لأنه رفض أن يعطي فتوى باطلة للحكام في ذلك الزمان!!
وليس معنى الحوادث التي ذكرناها أنها تعتمد فقط على عامل التقوى، بل تتدخل فيها عوامل أخرى بالطبع، ولكننا أردنا أن نشير إلى دور هذا العامل الذي كان يحتل مركزاً مهماً في نفسية علمائنا الأقدمين وصدق الشاعر حين قال :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأنبأني بأن العلم نــــــــــــورٌ
ونور الله لا يهدى لعاصــــي.
وتنسب هذه الأبيات إلى الأمام الشافعي .
2- ومن جملة العوامل التي تتدخل في تنمية الذاكرة التكرار: فترداد قطعة من الشعر أو من النثر (20) مرة يثبتها في الذهن أكثر ما لو كررت (10) مرات، هذا إذا تدخل عنصر الترداد فقط…
3- الاهتمام: كلما اهتم الإنسان بالشيء، وتعلق مصيره به حفظه أكثر والعكس بالعكس.
4- الارتباط بالأحداث: إن ارتباط حادثة بخوف أو فرح أو حزن أو معركة ترسخ الذكريات أكثر.
وهذه طريقة القرآن الكريم لأنه كان يتنزل مع الأحداث (سورة الأنفال: غزوة بدرـ قسم من سورة آل عمران: غزوة أحد، سورة الحشر: غزوة بني النضير، قسم من سورة النور: حادثة الافك وهكذا).
5- فهم الكلام: كلما ازداد فهم القطعة كانت أسهل في الحفظ وكلما تعقدت تعسّر حفظها.
6- الجرس الموسيقي: إن صيغة الكلام الجميلة تساعد في الحفظ، ولذا كان العلماء ينظمون العلوم بقصائد شعرية، وقبل هذا الجرس القرآني فهو جرس موسيقي يعين على الحفظ.
7- مصدر الكلام والاهتمام: إن سماع الكلام من قائد غير سماع الكلام من رجل عادي، ومعرفة أن الكلام وحي من الله يعطي سلطاناً على القلوب غير كلام البشر.
8- الحب والكره والخوف والرجاء: يتدخل العامل النفسي فحب البحث العلمي جعل الكثيرين يحفظون المعلومات الكثيرة، والخوف من الرسوب جعل الطلاب يحفظون برنامج دراستهم!!
9- السلامة الجسمية: الجوع يحرم الإنسان من تركيزه وتفكيره، وبالتالي جودة الحفظ، والاضطراب العام يحرم الناس من الانكباب على الحفظ وكذا المرض، والضعف، والوهن.
10- سلامة الدماغ: إن الذاكرة تعتمد بشكل رئيسي على سلامة الخلايا العصبية، وكلما تأثرت خلايا الجملة العصبية بشيء ما، سبـَّبَ هذا اختلال الذاكرة، كالعته والجنون، والتهاب الدماغ، والضعف العقلي. وتنكس الخلايا العصبية.
11- السن: في الطفولة تنطبع أحداث كثيرة، وتترقى الذاكرة حتى تصبح أشد ما يكون في السن ما بين 20-30 وتبقى كما هي حتى سن متأخرة ما لم يحدث الخرف العقلي.
12- الوقت: الصباح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب: أوقات اعتدال للحفظ والمذاكرة، والربيع فصل طيب للمذاكرة، وهدوء الليل وقت جميل للتأمل، وهكذا (فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى) سورة طه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى