شوف تشوف

الرأي

في ذكرى جيوردانو برونو

مع كتابة هذه الأسطر في فبراير من عام 2016 يحتفل الناس في إيطاليا بمرور 416 عاما على حرق (جيوردانو برونو) الذي كان مشعلا للتنوير في ظلمات أوربا الكنسية والتعصب الديني.
في سورة طه ظن موسى أنه رأى نارا يقتبس منها؛ فلما جاءها كانت نورا؛ فقال الرب لموسى اخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى. وكان لهيب حرق برونو نورا في ظلمات أوربا الدامسة.
عام 1600 ميلادي كان مفصلا في تاريخ أوربا الحديثة. ولكن يحق لنا أن نتساءل عن هول الجريمة التي قام بها هذا الكائن حتى شوي حيا مثل فروج في النار ذات الوقود؟ وهنا ننصح القارئ بالرجوع إلى كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت.
هناك سورة كاملة في القرآن اسمها (البروج) تروي قصة حرق مجموعة من الناس بسبب أفكارهم، يقسم فيها الله بالسماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود، ثم يلعن أولئك المجرمين إذ هم عليها قعود يتفرجون على الناس في أشد الألم يحترقون على قيد الحياة. الحرق هو من أشد ألوان الألم التي رأيناها في أقسام الإسعاف وأي حرق تجاوز مساحة من الجلد هدد صاحبه بالتسمم وتعطل الكلية والموت.
كنت في مشفى المواساة، حين استقبلت ثلاث حالات؛ شابة وأمها ورجل مرافق، احترقوا في سيارة، وكنت طبيبا مقيما يومها ليس عندي من الخبرة ما يكفي للعثور على مكان لضخ السوائل إلى بدن المصابة بعد أن احترق الجلد بالكامل (80 ثمانين بالمائة) ذلك أن أهم علاج للمصاب هو تعويض السوائل؛ فمات الثلاثة على الرغم من العلاج المكثف في أيام قليلة، في ظل آلام مبرحة مرعبة، يصرخ فيها صاحبها هولا وألما.
أنا شخصيا استهواني هذا الرجل (برونو) كثيرا ولاحقت ما كتبته مجلة در شبيجل الألمانية في حق هذا الرجل، ولماذا كان عنيدا إلى هذا الحد؛ فلم يرضخ لكرادلة روما حين طلبوا منه سحب أقواله والتبرؤ منها، والتوبة إلى الله توبة نصوحا.
يقول الفقهاء عن التوبة النصوح أنها ليست فقط الاعتذار والندم عما فعل؛ بل هي أداء القسم أن لا يعود لها مطلقا في المستقبل، بعد التبرؤ مما فعل. هذا ما كان أمام برونو لمواجهته فأبى بعد تعذيب وإهانات استمرت ثماني سنين، حتى نطق مجمع الكرادلة بالحكم: الحرق على قيد الحياة من أجل أفكاره التي يحملها؟
حاليا وبعد مرور أكثر من أربعة قرون لم يتم رد الاعتبار للرجل من البابا والكنيسة. اللهم إلا أن يحدث شيء مع البابا الجديد من أمريكا الجنوبية.
معلوماتي أنا في عقدة هذا الرجل أنه كتب في (العلة والغاية) كتابا يقول فيه أن الكون الذي نعيش فيه أكبر مما تقوله لنا الكنيسة بكثير، وأن زمن الكون أرحب بكثير من روايات وخرافات الكنيسة، فإذا كان الكون بهذا الاتساع إلى ما لانهاية، وكمية الكواكب في عالمنا أكثر بكثير من الكرة الأرضية التي نعيش على ظهرها؛ فما معنى عقيدة الخلاص التي تقول بها الكنيسة، وهل يعقل أن يأتي يسوع المسيح ليفدي نفسه عن أهل هذا الكوكب السخيف الصغير في كون مترام لانهاية له، فدخل الرجل على عقيدة الفداء تفنيدا من البوابة الكوسمولوجية.
أضاف الرجل هذا الكون الذي يغمرني يدفعني إلى الخشوع في جدلية الوحدة والتعدد، هو متعدد ولكنه واحد، كما أنه واحد ولكن بنفس الوقت يحمل التعدد.
أفكار هذا الرجل العنيد الفلسفية أرعبت الكنيسة فدفعته إلى النار ذات الوقود ليشوى حيا على قيد الحياة بعمر 58 عاما، ومازال أمام الكنيسة الاعتذار لهذا الرجل ورد الاعتبار له.
أما الكنيسة فلا نعلم إلى أين وصلت، ولكن أتباعه الرائعين في أوربا بنوا له تمثالا خالدا في المكان المسمى مكان الحريق (بلاسا دي فويرا) في روما قريبا من الفاتيكان.
قصص اضطهاد المفكرين أكثر من رمال الصحراء، فالرازي الذي نفتخر به ونسمي المشافي باسمه (عملت أنا في حلب طبيبا مقيما في مشفى الرازي وكان كارثة) ألف كتاب (المخاريق) الذي اتهم بسببه بالزندقة والذي يدعو فيه إلى اعتماد العقل للوصول إلى الله. ويقال إن الرجل فقد بصره في آخر أيامه ففرح خصومه بذلك واعتبروها علامة من الله على ضلاله المبين.
أما (ابن الهيثم) الذي يعتبر مؤسس علم البصريات فقد اتهم بالكفر والجنون لأنه كتب أكثر من 200 مخطوطة في علوم شتى، ولأنه كان يرى عمر الكون ممتدا في الأزلية؛ فقالوا عنه أنه أخرق مأفون زنديق حلال الدم؛ فاختبأ وتوارى، ووضع تحت الإقامة الجبرية حتى مات.
أما الفيلسوف (الكندي) فقد حماه المأمون لآرائه فنجا؛ حتى جاء المتوكل وكأن أقرب للسلفيين؛ فشنعوا عليه وساقوه إلى الجلد في ساحة عامة وانتهبت مكتبته وسموه زنديقا. فأصيب الرجل باكتئاب شديد، واعتزل الناس حتى مات، فلم يصل عليه إلا نفر قليل.
ونقل عن (ابن الأثير) صاحب المؤلفات شيء من هذا القبيل حتى مات ودفن سرا خوفا من الرعاع. أما رئيس الملاحدة (كذا؟) بحق فهو (ابن سينا) ولولا شهرته الطبية التي اشتهر بها في كتابه القانون الذي صمد خمسة قرون لتعليم الأطباء لاختفى من التاريخ، ولكن الغرب حفظه لنا، كما حفظ الزنديق الآخر ابن رشد؛ فيا حسرة على تاريخنا الذي أنجب ولكن في بيئة غير حاضنة؛ فكانوا كالماء المحتبس ينبجس ينابيع في تربة غير مناسبة، وهو ما حصل في تفجر الفكر الإسلامي التنويري في (بادوا) في إيطاليا، ليعم كل أوربا ويشرب منه برونو شرابا سائغا، قبل أن يكتوي بالنار ذات اللهب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى