الرأي

قطار تأخر إقلاعه ثمانين سنة

اقتحم مهاجمون بهو فندق «أطلس ـ أسني» في مراكش، وبأيديهم رشاشات قاتلة. توقفوا برهة لوضع الأقنعة على وجوههم وإخفاء ملامحهم، ثم فتحوا النيران عشوائيا، من تصيبه ترديه ومن تخطئه يغمى عليه.
صباح مراكش في شهر غشت يفرك عينيه بعد طول السهر في ليل منعش، يستعد ليوم جديد، لم يكن يخاله عنيفا وقاتلا يبعث الرهبة في النفوس. لكن وشمه الذي وضعته المدينة الحمراء إلى الخلف، من دون أن تشطبه من الذاكرة، لازال يلقي بظلاله على الشريط الحدودي بين المغرب والجزائر، ولا مناص من التعاطي مع الأمر الواقع. فقد كان بعض المهاجمين يتحدرون من أصول جزائرية، وسارعت سلطات بلادهم إلى إغلاق الحدود بدل فتح العقل على تهاوي سياسة تدويل الأزمة الجزائرية التي كانت خطوة غير محسوبة.
جاء المهاجمون من أحياء الضواحي الباريسية، بعد أن كانوا تلقوا تداريب على استخدام الأسلحة في معسكرات جزائرية. ولأنهم لم يقدروا على إخفاء دليل الطريق الذي يبدأ من وجدة شرقي الحدود في اتجاه العمق المغربي، حاولوا العودة إلى الشريط الحدودي قبل أن تقنصهم قوات الأمن المغربية في فاس التي كانوا امتطوا سيارة للهروب نحوها.
المفارقة أن في شهر غشت من العام 1953، اندلعت انتفاضة وجدة التي أرخت لبداية نهاية الاستعمار الفرنسي في المغرب والجزائر لاحقا. وبعد مرور أربعة عقود كاملة تعرض فندق أطلس أسني لهجمات إرهابية بأياد وقفاز جزائرية. وبين ثنايا الحدثين النقيضين، تبرز مدينة وجدة منطلقا لعمل مغاربي، تمثلت لبنته الأولى في رعاية الملك الراحل محمد الخامس لأول مشروع لربط السكة الحديدية بين المغرب والجزائر وتونس في الربع الثاني من القرن الماضي.
كثيرون يؤرخون لمعاودة تصحيح حركة الانتساب المغربي إلى امتداده العربي خلال مرحلة الاستقلال بخطاب طنجة لعام 1947، كونه لم يكتف بإلغاء الحدود الوهمية بين شمال المغرب وجنوبه، وإنما أزال المعوقات التي كانت تحول دون تجذر الانتماء العربي للمغرب، والذي يتكامل وهويته الأمازيغية والصحراوية والإفريقية والأوروبية. ووجدت أن خطابا بالغ الأهمية ألقاه الملك محمد الخامس في العام 1934 من وجدة، أي بعد مرور أقل من عشر سنوات على مبايعته ملكا للبلاد، يعكس التوجه المغاربي منذ ذلك الوقت على الصعيد الرسمي، بالنظر إلى تأسيس جمعيات طلاب الشمال الإفريقي في القاهرة وعواصم أوروبية، ضمن خطة تنسيق الجهود بين فصائل الحركات التحررية في المنطقة المغاربية.
وتمكن الإعلامي الكبير محمد بن ددوش، الذي رافق مسار النضال المغربي إعلاميا، من إماطة اللثام عن مضمون ذلك الخطاب الذي ألقاه الملك محمد الخامس في مناسبة تدشين خط السكك الحديدية الذي اخترق الحدود في اتجاه الفضاء الإقليمي، ونقل عن الملك الراحل قوله إن حدث تدشين خط السكة الحديدية سيجعل المغرب يبلغ هدفه المشترك في أقرب وقت. «وهو أن نجعل من هذا البلد مثالا للوفاق والاتحاد المؤدي إلى السعادة والرفاهية». بيد أنه بعد انقضاء ثمانين حولا على الحدث، لم يتغير شيء في عقلية الجوار. فقد حاولت السلطات الجزائرية تسريب «سعادة» من نوع آخر إلى الجسم المغربي. والحال أنها أقدمت على طرد عشرات الآلاف من المواطنين المغاربة الذين كانوا يقيمون بطرق شرعية على أراضيها، انتقاما من إقدام المغرب على استعادة أجزائه المغتصبة في الجنوب.
سمعت من ضابط أمن رفيع عاش وقائع حرب الرمال بين القوات المغربية والجزائرية في العام 1963، أنه عاين مقدمات الحرب وهو عائد على متن رحلة قطار من وهران إلى وجدة. قال إنه قبل بضعة أيام على اندلاع الحرب كانت المنطقة تعرف توترا صامتا. والتقط أثناء رحلته تلك ما يفيد بأنها ستكون الرحلة الأخيرة، في إشارة إلى النية المبيتة للسلطات الجزائرية على عهد الرئيس أحمد بن بلة وقتذاك. قال أيضا إن القطار كان يتجه جنوبا إلى منطقة بشار، ثم انهار كل شيء، لأن المواصلات كما الصلات بين الناس ستكون أولى ضحايا الحروب العدوانية.
أسفر الهجوم الإرهابي على فندق أطلس ـ أسني في مراكش عن سقوط ضحايا أجانب، والسطو على مبلغ مالي لا يزيد مقداره عن عشرة آلاف درهم. مع أن الخزينة كانت تتوفر على أضعاف ذلك الرقم، ما يفيد من أول وهلة بانتفاء طابع السطو والسرقة عن الحدث الإرهابي الذي كان في الإمكان حصر مضاعفاته، من دون أن تتمدد من مراكش إلى الحدود الشرقية. والأغرب أن الحادث صادف إقرار خطة اقتصادية طموحة لم يبق منها شيء. كانت تشمل ضمن فعاليات مؤتمر السلام الاقتصادي الذي استضافته الدار البيضاء، إقامة خطوط مواصلات عبر السكة الحديدية، تنطلق من مراكش إلى مصر. لولا أن المشاريع الكبرى تحتاج دائما إلى إرادة أكبر وسياسة أطول نفسا وصبرا واستقراء.
بنيت نهضة أوروبا ما بعد الحرب الكونية على قوة الحديد والفولاذ الذي قرب المسافات بين الدول، حيث انطلقت أوراش المواصلات واستغلال الموارد وإلغاء الحواجز، وقبل إقرار الوحدة النقدية ومجالات التنسيق السياسي كانت القطارات الأوروبية تقطع المسافات حاملة بواعث الأمل والثقة في خيار الوحدة. وفي المنطقة المغاربية تحديدا لم تتوقف القطارات أمام الإجراءات الأمنية والجمركية، بل واجهتها حدود مغلقة عليها علامات «ممنوع السير في الاتجاه الصحيح».
سألت موظفا في فندق أطلس ـ أسني عما يعنيه حدث الهجمات الإرهابية، فرد بأنه حين انطبح أرضا، ظل يردد الشهادة، وكان أحد المهاجمين يمر إلى جانبه وقد تدلى الرشاش الذي لامس رأسه وجسده. لكن لحظة صدمته سرعان ما انتهت، وإن ظل على الطرف الآخر من يعتقد أن إغلاق الحدود يجنبه تحمل مسؤوليات جزائية عما حدث، أما مراكش فقد تغيرت نحو الأفضل. أليس كذلك؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى