الرأي

قطبية حزبية يفرضها الأمر الواقع

بطريقة لم يتم التخطيط لها أو التفكير فيها، يتجه المشهد السياسي إلى ما يماثل نظام قطبية، فرضها الأمر الواقع. وبعد أن كان التحالف القائم بين مكونات الأغلبية يسري على قضايا التدبير الحكومي للملفات والقضايا المطروحة، تجاوز ذلك إلى ما يشبه تحالفا حزبيا يسبق موعد الانتخابات التشريعية المقررة مبدئيا العام المقبل. مرورا بخوض غمار منافسات البلديات والجهات.
في مقابل هذه الصورة تميل فعاليات المعارضة بدورها إلى إقامة تحالف في مواجهة السلطة التنفيذية. بمعنى آخر إذا كانت الأغلبية أٌقرب إلى إنشاء قطب سياسي من داخل الحكومة، فالمعارضة أيضا تبدو في وارد أن يكون قطبها رباعيا يتحين الفرصة لإزاحة خصومه السياسيين من الواجهة الحكومية، عبر صناديق الاقتراع، إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
الملاحظة الأولى المرتبطة بهذا التوجه الذي لم يكتمل بعد، أن فكرة إبرام ميثاق الأغلبية قيدت الأحزاب المشاركة في الحكومة بأنواع من التنسيق على صعيد ممارسة المسؤولية، لكنه امتد إلى حد ما ليشمل مجالات أخرى. وسواء بالنسبة إلى الذين يدعمون الائتلاف الحكومي أو يعارضون، فإن حزب «العدالة والتنمية» نجح في ما أخفق فيه سابقوه. وإذا أخذنا في الاعتبار أن التحالفات التي برزت أثناء تشريعيات العام 2011، يتبين بوضوح أنها جمعت بين أحزاب في الحكومة وأخرى في المعارضة، وكان ذلك من بين الأسباب التي استفاد منها حزب رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران في القفز إلى الصدارة.
ثاني الملاحظات أن تجمع الأحرار الذي بالكاد طبع علاقاته مع الحزب الحاكم، استسلم لواقع أن التحالف الحكومي بقيادة الإسلاميين يمكن أن يتمدد في اتجاه آخر، بدليل أن رئيس مجلس النواب المنتسب إلى الأحرار، الطالبي العلمي، ذهب بعيدا في الثناء على خصم حزبه سابقا، وإذا كان مهتما بأن يرد التحية بأفضل منها، طالما أن «العدالة والتنمية» قبل على مضض إدراج تجمع الأحرار في الحكومة لإكمال الأغلبية العددية، فإن فك ارتباطه بحلفائه القدامى يعني أنه في طريقه لأن يقطع شعرة معاوية، ما يعني أن انضمامه إلى الحكومة خلط عليه الكثير من الأوراق.
ثالث الملاحظات أن التحالف الحكومي يتحرك حاليا، على مستوى قيادة الحكومة والائتلاف الحزبي انطلاقا من رأس واحد يؤثر في توجهاته، وعلى الطرف الآخر انبرت المعارضة كتحالف يفضل التنسيق في البرلمان فقط، في نطاق احتفاظ كل حزب بخصوصياته ومواقفه التي قد تتباعد أو تتلاقى مع بعضها. إلا أن هذا التطور يطرح السؤال عن الدور المحتمل لباقي الأحزاب، من خارج تحالف المعارضة والحكومة.
بصيغة أخرى، فإن وجود أكثر من ثلاثين حزبا بات في ظل المشهد الراهن لا يتماشى والاتجاه نحو إقرار نظام قطبية حزبية، يمكن أن تلعب أحزاب أخرى قليلة دور المرجح لهذه الكفة أو تلك. إلا أن التجربة أبانت عن الحاجة إلى معاودة النظر في الشتات الحزبي الذي يوزع أصوات الناخبين. وإن لم يكن بالضرورة داعما لغير الذين يتم التصويت لفائدتهم.
في أكثر التجارب ميلا إلى نظام القطبية برز اتجاهان، أحدهما كان يندرج في إطار «الكتلة الديمقراطية» التي كانت بدأت بخمسة أحزاب وانتهت بأربعة، ثم ثلاثة، قبل أن يقطع «التقدم والاشتراكية « آخر الحبل في صلاته بالكتلة إياها. أما الثاني فقد أطلق على نفسه اسم الوفاق، وفي التجربتين معا اختار تجمع الأحرار أن يظل في الوسط. في وقت لم يكن فيه «العدالة والتنمية» ظهر كقوة سياسية. واللافت في تلك التشكيلة أن حزبين على الأقل غيرا انحيازهما، ذلك أن «الحركة الشعبية» توجد اليوم في الصف الحكومي، فيما «الاتحاد الدستوري» يساند المعارضة. غير أن هذه الطبعة كانت تبلورت في نطاق الإعداد لخطة التناوب.
تغيرت مواقف كثيرة وجرت مياه متدفقة تحت الجسر، وربما أن الأهم في التموقع الراهن أنه يجري من دون تخطيط مسبق، ما يعني أن الظروف والمعطيات الطارئة هي ما أثر في صورة المشهد السياسي. ولئن كان مفهوم القطبية ارتكز في فترات معينة إلى فكرة تقارب البرامج والتيارات، فإن انتفاء الكثير من التناقضات في التسليم بأهمية ومركزية التدبير العصري للشؤون العامة أصبح معيارا موضوعيا في انبثاق التحالفات.
لا أحد في وسعه أن يتكهن بالمدى الذي قد تصله التحالفات الراهنة، لكنها إن استمرت إلى ما قبل تشريعيات العام 2016، سنكون أمام ظاهرة جديدة فرضت بقوة الأمر الواقع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى