الرأي

قمة عربية بشطرين

سيدخل مصطلح «قمة من شطرين» إلى قاموس النعوت التي رست على أهم قمة عربية، احتضنتها مدينة فاس العام 1982. فقد وصفت قمة الخرطوم بلاءاتها الثلاثة: لا سلم ولا مفاوضات ولا إذعان للأمر الواقع المفروض. وقبلها كانت قمة رد الاعتبار بعد حرب أكتوبر 1973، ثم توالت الأوصاف، على قدر تطورات الأحداث.
أحيانا يقال عن قمة أو مؤتمر سياسي إنه مستمر في الانعقاد، للدلالة على جسامة الأحداث التي تتطلب الرصد والمتابعة، وفي حالة قمة فاس الأولى أنهى المؤتمر أعماله بعد افتتاحه مباشرة، واقتصرت الجلسة على كلمة ترحيب مقتضبة أعلن بعدها عن تعليق المؤتمر إلى اجتماع لاحق لم يتحدد موعده. وبقي جدول أعماله ينبض بقضية واحدة، كانت وراء انعقاده، ولم تكن من بين أسباب توقفه.
ما بين عامي 1974 و1982 جرت مياه كثيرة تحت الجسر. ولم يغضب العاهل الأردني الملك حسين بن طلال لشيء أكثر من صدور قرار فريد عن قمة الرباط، التي أقرت بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. ثم تنفس الصعداء بعد قمة فاس التي آلت إلى وضع أول مشروع عربي للسلام، بدد مخاوف الأردن من أن يكون بديلا في خطة التوطين التي كانت تطرح بين الفينة والأخرى. والحال أنه كان ينظر إلى المبادرات التي تصدر من المغرب، بلد أخيه الشقيق الملك الحسن الثاني، على أنها تزيل عنه الكثير من الأعباء.
وهكذا التأم الشطر الثاني من قمة فاس، في نطاق اتفاق مبدئي، روعي فيه أن يحضر الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، ويخصص له استقبال في مستوى رؤساء الدول، للتخفيف من المرارة التي لحقته بعد اضطراره وقواته إلى الخروج من بيروت التي حاصرها وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون، وصمدت في وجه الضربات الموجعة كما لم تفعل أي مدينة أخرى.
الغريب أن مواصفات الوقائع التاريخية، ستكرر سابقة حصار بيروت التي طوقت برا وبحرا وجوا.. عبر استنساخ أنواع من الحصار، مثل ما يحدث اليوم على أراضي سوريا لإخراج المسلحين، بعد أن فقد الأسد الابن السيطرة على أكثر من نصف مساحة أرض الشام. من كان يتصور ذلك في العام 1982، حيث خضعت مخيمات اليرموك إلى حصار التجويع والتقتيل؟
رفض الرئيس السوري حافظ الأسد، في خضم حصار بيروت، استقبال عرفات الذي خامره إحساس بالخذلان من طرف أهم حليف كانت قواته العسكرية موجودة في لبنان. وشاءت ظروف أن تقف الحركة الوطنية اللبنانية بكل فصائلها وزعاماتها عاجزة عن فعل شيء لإنقاذ منظمة التحرير الفلسطينية. لكن كافة المحاولات التي نفذتها الاستخبارات والقوات الإسرائيلية، بهدف الإجهاز على القائد عرفات الذي كان رأسه مطلوبا من أكثر من جهة، باءت بالفشل. وحدثني مرة مستشاره السياسي بسام أبو شريف، القيادي السابق في الجبهة الشعبية، أن عرفات اتخذ من العربات المتنقلة في شوارع بيروت مقرا لإقامته، إذ كان يتنقل خفية من مكان لآخر. بينما العيون والآذان مبثوثة في كل جانب لاقتناص ما يفيد بوجوده في المكان الخطأ وفي التوقيت الخطأ.
سيلتقي عرفات بالرئيس حافظ الأسد على هامش قمة فاس، تماما كما سيجتمع الرئيسان العراقي صدام حسين والسوري حافظ الأسد للمرة الأولى بعد قطيعة طويلة، لتبادل أجناس العتب، وسيشارك وزير الخارجية الجزائري أحمد الطالب الإبراهيمي بالوكالة عن الرئيس الشاذلي بن جديد. وستكون مصر الغائب رقم واحد، بسبب تداعيات إبرام اتفاق «كامب ديفيد»، إذ لم يكن واردا في تلك الظروف توجيه الدعوة إليها بعد تعليق عضويتها في جامعة الدول العربية. ولن تقفل ثمانينيات القرن الماضي عقدها، حتى تكون الأجواء أعدت، وفق ترتيبات سياسية هادئة، من أجل معاودة مصر احتلال مكانتها.
كيف حدث إذن، حتى برز مصطلح «قمة من شطرين»، بعد أن جرت التقاليد بأن تبدأ أعمال القمة وتنتهي في وقت محدد؟ ولماذا رفض المغرب وقتذاك استضافة قمة عربية بمن حضر، كي لا تتأثر أعمالها بحجم ونوعية الغائبين؟
كافة الترتيبات والسيناريوهات التي أعدت سلفا كانت تفيد بأن معظم القادة العرب أبدوا موافقتهم على حضور القمة التي لم يكن ينقصها سوى الإعلان الصريح، بتبني خيار السلام العادل الذي سيتطور لاحقا إلى مفهوم «الأرض مقابل السلام». غير أن تخلف قادة كل من سوريا والعراق وليبيا، بعد أن أكدوا التزامهم بالحضور، أرخى بظلاله على وقائع أعمال قمة اعتبرت ناقصة، لأن الأمر لم يكن يتعلق بجدول أعمال قابل للتردد أو اتخاذ مواقف متحفظة، إزاء هذه المسألة أو تلك.
كان في وسع المغرب أن يتغاضى عن غياب العقيد معمر القذافي، على اعتبار أن علاقات بلاده والرباط تعتريها أزمات. علاوة على تدني نسبة تأثيره في الموقف العربي. والأهم في تبني خيار السلام أن تكون البلدان التي تعتبر نفسها دول مواجهة مباشرة مع إسرائيل، حاضرة على مستوى القمة، وتوقع على قراراتها التي ستمثل انعطافا كبيرا في مسار الصراع العربي – الإسرائيلي. لم يكن وقتها قرار السلم أو الحرب في الإمكان اتخاذه من دون سوريا التي كانت من أهم معادلات أي اختيار.
لا بأس إذن من الالتفات قليلا إلى الوراء، فعلى عهد الرئيس حافظ الأسد التأمت جولات حوار ومفاوضات في جنيف، كان محورها آنذاك البحث في كيفية إيجاد مخرج لأزمة الشرق الأوسط، إلى درجة أنها بلغت في إحدى المراحل درجة البحث في الوضع القانوني والسياسي لهضبة الجولان المحتلة. واليوم صارت جنيف بالكاد تنعقد للبحث في صيغة لإنهاء نظام حكم آل الأسد أو تقليم أظافره.
بسبب هذا الغياب اضطر الملك الراحل الحسن الثاني للإعلان عن افتتاح القمة العربية الأولى في فاس، وقال إن شطرها الأول انتهى إلى الإرجاء في انتظار الشطر الثاني الذي كان مختلفا بكل المقاييس، بمستويات الحضور ونوعية القرارات. غير أن الكيان الإسرائيلي فوت فرصة اليد الممدودة من طرف العالم العربي لبناء سلام عادل، ثم انحدرت الأمور إلى قاع البئر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى