شوف تشوف

الرئيسية

«كارت بوسطال»

سعيد الباز
عندما يأتي الصيف كثيرا ما يغمر ذاكرة بعض أجيالنا السابقة حنين إلى أزمنة غابرة، قد يكون النسيان قد طواها أو هي انفلتت بين يدي الزمن دون أن ينتبه إليها أحد حتى صارت مجرد ذكرى قديمة.
البطاقة البريدية، أو «الكارت بوسطال»، من بين الذكريات المنسية التي كان لها مجدها أيام الصيف وعطله، لا تخلو أسفار الناس من هذه الرسالة المصورة عن مكان الزيارة ومحلات الاصطياف، تعزز الحدث وتخلده وتحقق ما هو أهم من ذلك أي التواصل وتبادل مشاعر التهنئة.
في ذلك الزمن كانت هناك أكشاك ومحلات متعددة تعرض في بواباتها وعند مداخلها صورا عديدة للمدينة نفسها أو للبلد بأكمله، هذه الصور الفوتوغرافية الملتقطة بحرفية عالية تركز على المعالم السياحية والعمرانية للمدينة أو البلد، وتحاول قدر مستطاعها أن تجتذب إليها السائح أو الزائر العابر ليقتني واحدة منها أو أكثر، ويخط عبارات خلفها موجهة إلى أهله أو أصدقائه، واضعا الطابع البريدي المناسب لوجهته داخل البلد أو خارجه.
كانت لحظات جميلة ومفعمة بالمشاعر الدافئة حين يقف الشخص أمام الصندوق البريدي في عرض الشارع أو في الواجهة الأمامية لأي مكتب بريدي، وعلى مهل يدفع في الفتحة المخصصة لذلك ببطاقاته البريدية التي تتدحرج إلى الداخل، كما لو كان يسهم بهذه الحركة البسيطة في إرسالها إلى وجهتها البعيدة.
اليوم ما زالت تعرض هذه البطاقات البريدية أمام بعض المحلات والأكشاك، وفي النادر أن تغري أحدا بأن يستعرضها بيديه أو أن يقتني واحدة منها من أجل الذكرى فقط، إذ من المحتمل جدا أن تبقى بين أغراضه مهملة دون أن تستكمل رحلتها التي من أجلها خلقت منذ الأول بين صناديق البريد إلى حقائب سعاة البريد.
تقول حكاية البطاقة البريدية إن صاحب الفكرة كان نمساويا يدعى هاينريش فون ستيفان سنة 1865، ورغم كونه مديرا عاما للبريد في بلاده وأول من بادر إلى تأسيس الاتحاد الدولي للبريد، لم يستطع إقناع المسؤولين بنجاعة فكرته، وكان عليه أن ينتظر أربع سنوات أخرى حيث استطاع مواطنه إيمانويل هيرمان إقناع المسؤولين عن البريد النمساوي بإنتاج البطاقات البريدية والعمل على تسويقها في مراكز البريد. لكن انتشار البطاقة البريدية وبداية ازدهارها لا علاقة لهما بوظيفتها الإنسانية الصرفة، لقد كانت الحرب البروسية- الفرنسية الشهيرة هي من أسهمت في إبراز دورها على المستوى الأوروبي.
كان الآلاف من الجنود والضباط، زمن الحرب في الخنادق، وخلال أيام الحصار المتبادل بين الجيوش، يرسلون البطاقات البريدية إلى الأهل ويتلقون مثلها في فترات الهدنة القصيرة، فبدت وسيلة مهمة في التواصل ونقل أخبار العائلة والاطمئنان على الأسر من جهة والمقاتلين من جهة أخرى.
بعد ذلك أصبحت منافسة للرسائل البريدية العادية ولعبت الصورة المرفقة بالبطاقة البريدية دورا أساسيا في تمييزها، ما جعل العديد من المصورين الفوتوغرافيين الأوائل والمتخصصين في تقنية الطباعة يهتمون بتطويرها، وبالتالي تخصص البعض منهم في صناعتها.
الإقبال الكبير على البطاقات البريدية لفت إليه أنظار المهتمين بالإشهار والدعاية السياسية الذين استخدموها في الحرب النفسية ضد أعدائهم. بدأ دور البطاقة البريدية في الانحسار بعد الهاتف وغيره من وسائل التواصل الأخرى، حتى صارت متداولة على نطاق سياحي محدود، قبل أن تنقرض تماما وتدخل إلى مجال جامعي التذكارات القديمة، مثل الطوابع البريدية، الذين يحرصون على اقتناء النادر منها في مجموعات البعض منها لا يقدر بثمن. فكما ولّى زمن البطاقة البريدية ولّى، أيضا، زمن الرسائل، فكما لم تعد تداعب مخيلتنا تلك الصور البريدية، غابت عن أسماعنا العبارات المغربية البسيطة، مثل: «سلام إلى العائلة كل واحد با سمه»، أو «لا يخصنا إلّا النظر في الوجه العزيز».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى