الرأي

كارل جيراسي وقصة فصل الإنجاب عن الجنس

كارل جيراسي (Carl Djerassi) من رواد الطب العظام، مع أنه لم يكن طبيبا بل كيميائيا، وهي عادة الانفراد بالعبقرية من خارج حقل الاختصاص والمهنة. غيبه الموت عن عمر ناهز 91 عاما في بيته في سان فرانسيسكو في 30 يناير 2015م. ولكن من هو هذا الرجل الهام؟
وصف الرجل أنه كان كيمائيا دؤوبا هرب من النمسا من بطش النازية، وفي عام 1951 توصل في مخبر صغير اسمه سينتكس (Syntex) في مدينة مكسيكو إلى التركيب الصناعي للهورمون الأنثوي من مركبات الأستروجين (هورمونات الذكورة تعرف بالأندروجين وهورمونات النزو الأنثوية هي الأستروجين، أما هورمونات الأمومة في البروجسترون) هو نوريثي ستيرون (Norethisteron) وحصد ما هو أهم من جائزة نوبل؛ فقد اغتنى بمال لا يوزن في قبان ولا تأكله النيران؛ لأن الرجل غيَر العالم بالهورمونات الصاعقة التي غيرت وللأبد الأسرة والمجتمع لأول مرة في تاريخ الإنسان، بإنتاج (حبوب مانعات الحمل)، التي ربما لم تبق على وجه الأرض امرأة إلا وتناولتها، لسبب أو آخر. بهذا الاكتشاف الجلل، ولأول مرة في تاريخ الإنسان يتحكم الإنسان في نسله، فيمكن للمرأة أن تمارس الوقاع (الجنس) بدون خوف من الحبل، وفي هذا الصدد ـ ولعله منذ أن بزغت الحضارة في عصر حمورابي ـ تم الوصول إلى أعظم إنجازين أحدهما دشنه جيراسي بحبوب منع الحمل، والثاني بحبوب الفياجرا ومعالجة العنة عند الرجال، والثاني له حديث مستقل.
وصل (كارل جيراسي) إلى الفصل بين الجنس والإنجاب؛ فيمكن لأي رجل وامرأة أن يتصلا جنسيا بدون خوف من الحبل، وهذا له وعليه كأي مادة تستخدم للخير أم الشر، فيمكن للمرأة العادية أن تتحكم بالإنجاب في الوقت الذي تريد، كما يمكن لأي امرأة تمارس الفاحشة عفوا أن تحتاط لنفسها من الحبل، ولكن ممارسة الفواحش تأتي بالكوارث في أمراض الجهاز التناسلي من العقبولة والسيلان والإفرنجي والإيدز. اللعنة الأخيرة التي مات منها حتى الآن أكثر من ثلاثين مليونا من الأنام، وهذا يقول أن أفضل مانع ضد الأمراض هو الفضيلة وتجنب الفواحش ما ظهر منها وما بطن. أطلق على الرجل وصف المدافع عن المرأة خاصة في رؤياه المستقبلية عما عرف بـ (التجميد الاجتماعي) أو تجميد النسل إلى أجل مسمى، والتي تحولت إلى حقيقة اليوم؛ فيمكن لأي امرأة أو رجل تجميد مادة الإخصاب من حيوان منوي أو بويضة في النشادر المبرد 160 درجة تحت الصفر، والاحتفاظ بها جاهزة للتلقيح في أي وقت، بل ومنح البويضة أو الحيوان المنوي لآخر، وهذه مسألة أخلاقية لها بحث مستقل.
كسب جيراسي ثروة هائلة من وراء هذا الاختراع، وحقق لنفسه أكثر من لقب الكيميائي بأن أصبح مهندس المجتمع والديموغرافيا في تحديد النسل.
مع ذلك فإن استخدام مانعات الحمل ليس بدون مشاكل فهي تقود إلى الجلطات في الأوعية سواء الوريدية منها أو الشريانية، وأنا شخصيا واجهت حالة غريبة من أفظع ما مر علي في تاريخي الطبي الذي امتد أربعين سنة، من سيدة مصرية تناولت حبوب منع الحمل سنوات طويلة، بدون أخذ فترة نقاهة واستراحة فيها، وهو المنصوح بها في العادة أن لا تتناولها المرأة أكثر من ستة أشهر، وتحاول طرقا أخرى لمنع الحمل وتنظيمه، مثل اللولب، والتحاميل القاتلة للحيوانات المنوية، والكبوت العازل أو العزل، وتنظيم الاتصال الجنسي خارج وقت الإباضة التي تأتي في العادة بين الأيام 12 إلى 14 من الدورة الشهرية، وفيها يرتفع مستوى (الأستروجين) والرغبة في الاتصال الجنسي عند المرأة استعدادا للحمل، أما الدورة فهي البكاء دما على خسارة الحمل؟ وهي ميزة في بني آدم وغير موجودة في عالم الحيوان بأن المرأة يمكن أن تحمل في أي شهر.
المريضة المصرية الشابة التي تعرضت للجلطة الشريانية، كانت تحديا كبيرا لنا في يوم نحس مستمر، ترتب عليها في النهاية مع كل الجهود المبذولة، ان تخسر السيدة ساقها بترا بعد دخول مرحلة الغانغرين، ومعها شماتة بعض الزملاء الذين يظنون أنهم في منجاة من مطبات أشد هولا، ولكنها (لا أخلاقيات) بعض الأطباء الذين لا يستحقون أن يرتدوا المعطف الأبيض، فلرب معطف أبيض تحته شيطان أسود؟ عفوا من التمييز اللوني.
القراء الذين لا يعرفون الوسط الطبي فهو صندوق أسود لهم، وهو كذلك، لكنني دخلت فيه فأصبحت طبيبا أمارس معالجة المرضى والمصابين لمدة أربعين عاما أتأسف عليها أربعين مرة.
قبل فترة كنت في القنيطرة فأحضرني صديق فاضل وقال لي والدي مصاب بالفشل الكلوي ولكن عندنا مشكلة؟ قلت له حسنا أنا قادم إلى مدينة القنيطرة لأنها أعجبتني بعد مدينة الجديدة فهي مدينة ذات نظافة وأناقة وتحضر، بشوارع لا تزدحم فيها الحفر والنقر كما في الجديدة (شارع حيوي مثل جبران خليل جبران ويمر بجنب أعظم مشفى أصبح لهم فيه أربع سنين ومازال لم ينته؟ وعلى السيارات أن تقفز دوما فيه مثل خيول السيرك؟).
ذهبت إلى القنيطرة لرؤية والد صديقي المثقف فرأيت مدخلا رائعا، وغابات ذات بهجة للناظرين، وشاطيء بحر ساحر، وبحيرة رائعة، فقد اجتمع في هذه المدينة فضلا عن الموقع الاستراتيجي محطتي قطار، ففهمت لماذا أغرت المدينة الاستعماري ليوطي بوضع قدمه فيها؟ قلت بخ بخ لساكني هذه المدينة. وكان أروع ما فيها ساكنتها، فقد اجتمعت بالاستراتيجي المثقف (مصطفى الأحمدي) فهو رجل تشد الرحال إليه.
حين نظرت في ذراع المريض، وشاهدت الانتفاخ، تذكرت رحلتي مع مرضى الفشل الكلوي؛ فقد أجريت كمية من العمليات بقدر الشعر الذي سقط من رأسي.
انتفاخ الذراع بعد عملية الفستولا (الناسور الشرياني الوريدي) الذي نستحدثه في الرسغ أو المرفق يجب أن ننتبه إلى إزالة أي عائق في طريق الدم العائد للقلب مثل القثاطر (Catheter) التي توضع للغسيل المؤقت أو الدائم في العنق بنفس الجهة. هنا تحتشد وتتدفق كمية كبيرة من الدم أكثر من قدرة التصريف، وبالتالي ليس أمام الدم إلا أن يحتبس في الطريق فتنتفخ الذراع، وهو ما حصل لوالد صديقي المثقف في القنيطرة.
كتبت له رسالة توصية إلى طبيبه المعالج، أنصحه فيها برفع قثطرة العنق من نفس الجهة، وتحرير الطريق أمام الدم المتدفق العائد، أو إغلاق الناسور وترك الغسيل لقثطرة العنق. أو نقل القثطرة للجهة المقابلة، إنها أمور فنية أعرفها جيدا.
سألته لاحقا عما حدث مع والده. قال ما كتبت أصبح في سلة المهملات ولم يعطوه أي اهتمام. ربما لأنها كانت محررة باللغة الإنجليزية، وهذه أحد مشاكل الاستلاب الثقافي في المغرب من هيمنة اللغة الفرنساوية، في حين يتجه العالم إلى لغة ريتشارد قلب الأسد، أو هو ذلك التكبر والعجرفة (يسميها المغاربة النفخة)، أو هو من انكشاف خطأ المعالجة.
التقيت بصديقي بعد فترة، وسألته عن المصير؟ قال سألوني أن أشتري جهازا غير موجود، وهي حيلة تهرب جديدة، ومازال الرجل يزداد ذراعه انتفاخا، ومسألته استعصاء! أذكر في يوم حين كنت في المشفى التخصصي التعليمي (طاقة 600 سرير) في القصيم (السعودية) أعمل رئيس وحدة هناك في جراحة الأوعية الدموية، أن رجلا جاءني من وراء هذا الخطأ الفني، وقد أصبح ذراعه بقدر جبل. في مثل هذه الحالة يجب تحضير المريض لعملية لا توصف بالسهلة لإغلاق الفستولا كما نصحنا زميلنا الذي ألقى بالتوصية في القمامة. إن رحلتي مع أصحاب المعاطف البيضاء تحتاج إلى مجلدات ضخمة عن قوم امتهنوا أعظم مهنة ولكنهم ساء ما يعملون.
قلت لصديقي هل جلس معكم الطبيب شارحا موضحا قال لا .. هذه الملاحظة تكررت وسمعتها من العديدين. وهو ما حدث معنا في وفاة والدة صهري في كندا حين دخلوا على سرطان معدة عندها وانتهت العملية بالوفاة، حين كان الجراح الهمام في مؤتمر خارج كندا، وتسلمت معالجة الاختلاط طبيبة ليست بالمقام، فكانت مفاجأة لي عن الوضع المزري للطب في بلد مثل كندا.
وهي رواية بائسة عن وضع الطب، وتحتاج أن يسلط الضوء عليها، من خبير عاش أربعين سنة في قطاع الطب في أخطر العمليات وأحفلها بالتحدي.
ولكن كما يقول المثل في العالم العربي عليك أن تقول قولا لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا ولا يحرض مخبرا سريا على كتابة تقرير سمي يوصي بطيرانك، حرصا على الشخير العالم.
كما حصل معي في السعودية حين راسل أناس رئيس مجلس الشورى على تخليص المملكة من شروري فأرسل لي الرجل مشكورا الخطاب ونبهني إلى ألغام الكلمات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى