الرأي

كتابة التاريخ على ضفاف جغرافية

ثلاثة على الأقل من الصحافيين الذين عرفتهم، كانت تغلب عليهم نزعة تدوين الأحداث وقت وقوعها. يأتي الكاتب الصحفي مصطفى السحيمي إلى قاعة التحرير، من دون أن ينسى شيئا من التفاصيل. مقالاته مطبوعة عليها عناوين كبرى وأخرى فرعية. وإذا اضطر إلى إضافة فكرة يخرج آلة الطباعة المحمولة، قبل وصول الكمبيوتر إلى الأسواق المغربية، ويعزف على أوتارها.
بين الفينة والأخرى يدخن سيجارا من النوع الخفيف، وحين يستبد به الجوع، يكون قد قطع عليه الطريق بتناول «ساندويتش» يسد الرمق، فقد كان المجيء إلى العمل الصحفي بالنسبة إليه مثل نزهة يعد لها جيدا. كما يفعل قبل دباجة مقالاته التي تعتمد مرجعية التحليل الهادئ للأحداث.
ميزته من دون صحفيين آخرين أنه يجمع بين المرجعية الأكاديمية والمهنية، ولا يلبث أن يعود إلى أوراقه يستنطقها. فقد كان بارعا في تسجيل الوقائع يوما بيوم، وأحيانا لحظة بأخرى. ويوم كانت المواقف محكومة بالانتماء والالتزام، درج السحيمي على الانفتاح على الجميع. فهو يكتب كما يحاضر في الجامعة، محاولا الابتعاد عن التصنيفات المعلبة، إنه صديق الجميع، ولا تمنعه أوفاق الصداقات من التعبير عن رأيه صراحة وكتابة.
لكن الكاتب مصطفى السحيمي تأثر في مساره بالرغبة التي كانت تحذوه في أن يصبح محاميا مرموقا، ثم استعاض عن الترافع أمام المحاكم بمداخلات في القانون الدستوري، لم تطفئ شعلة الكتابة التي أخذته بقوة. فالتوثيق لديه مصدر تفكير، ولم يكن يتوانى في تسجيل الوقائع التي يبدو أحيانا أن لا رابط بينها. ثم تصبح ذات نسق، حين يضفي عليها توابل من الحاضر الذي يستشرف الآفاق.
بيد أن القيدوم مولاي مصطفى العلوي، الذي صنع مدرسة خاصة في التعاطي الإعلامي مع الأحداث، لم تكن تفارقه كراسة صغيرة، أقرب إلى إنعاش الذاكرة. يوقف سيارته إلى الطوار كي لا تنفلت منه فكرة جذابة، ويكتب عليها مترجلا يعبر الطريق. وعندما لم يكن رفاق المهنة يهتمون بالتوثيق وحفظ الذاكرة، كان العلوي ينفرد بهذه الخاصية التي رفعته إلى درجة المؤرخ. تبحث عن صورة نادرة لشغب برلمان العام 1963، فتجده يخزنها اختزالا لمعارك المرحلة. وتلتفت إلى أزمة الريف فتجده صحفي الميدان الذي جال ربوع الأرض من الصحراء إلى فيتنام، ومن أدغال إفريقيا إلى دهاليز الأمم المتحدة، ومن ظلمة معتقل دار المقري الرهيب إلى رحاب مكة المكرمة.
سألته يوما، وقد بدا متأثرا في خطوه، إن كان يشعر بألم ما في رجله، فرد بسرعة أن قلمه عكاز يضيء الطريق، وما هي الأجساد التي تشكو وإنما العقول تسمو بألم الذات وجراح الوعي. وكنت استفسرت الوزير إدريس البصري، في ذروة الكتابات النارية لمصطفى العلوي ضد سياسته، عن خلفيات ما يحدث، فأقسم بأغلظ الأيمان أنه يقدره، وأن جهات عدة طلبت منه اعتقاله والزج به في السجن، وكان البصري، وفق روايته، يحميه من الأنياب الكاشرة. ألم يقل المسؤول المتنفذ ذاته يوما إن الإقامة الجبرية التي فرضها على الشيخ عبد السلام ياسين كانت بهدف تأمين حمايته؟
لكن الكاتب مصطفى العلوي لا يستل سيفه أو قلمه في مواجهة العزل، فقد واجه البصري وآخرين في أوج تحكمهم في الشاذة والفاذة. وظل صاحب «الأغلبية الصامتة» وفيا لقناعاته، على رغم كل المضايقات وأشكال الحجز الذي تعرضت له منابره. ووجدت أنه في كتابه الأخير: «الحسن الثاني، الملك المظلوم»، الذي ضرب رقما قياسيا في المبيعات، عاد إلى أوراقه القديمة، وإلى ما كان يسجله من فلتات السياسة.
بعد مرور عقود على وقائع مثيرة، احتفظ الكاتب بطراوتها، وكأني به يريد إشراك القارئ في ما كان يجول في ذهنه إبان حدوثها، وتلك طريقته في أسلوب ومنهجية الكتابة التي يضع فيها الصحفي والمؤرخ يدا في يد، وإن اختلفا في الاستقراء والتقييم.
ذات ظهيرة شكوت إلى الزميل عبد الجبار السحيمي، الأستاذ العلم، من كثرة الأوراق الصغيرة التي كان يبعثرها الكاتب الصحفي محمد العربي المساري على مكاتب المحررين في «العلم». ورد: «احتفظ، بها فقد تعينك في الآتي من الزمن على كتابة شيء في الموضوع».
لم يكن المساري شفاهيا، وإن أجاد الخطابة والحديث، ففي مهنة الصحافة اختار بدوره أن يسجل ملاحظاته اليومية عل أوراق صغيرة يعود إليها عند الحاجة. غير أني أختم بطرح السؤال المؤرق: لماذا لا يكتب السياسيون المغاربة مذكراتهم؟ وإن كتب بعضهم جزءا من سيرة ذاتية يتردد في نشرها.
روى الزميل الراحل العربي المساري أنه وجه السؤال إلى الزعيم علال الفاسي، فرد عليه بالقول: «لكني لازلت شابا»، وكان يقصد بذلك فكرته التي عبر عنها في أكثر من مناسبة، بأن الشباب كامن في العقول لا الأجساد.
وسألت الصحفية المقتدرة نادية برادلي المستشار أحمد رضا كديرة إن كان يعتزم نشر مذكراته، وهو على قيد حياته، فقال لها إنه أنهى الفصل الأول، ولم يفكر بعد في طريقة النشر. لكن ورثة الزعيم محمد بلحسن الوزاني جمعوا مقالاته ومداخلاته في سلسلة وثائقية، أقرب إلى الكتابات اليومية منها إلى المذكرات. ولا يزال الجدل مستمرا حول أحقية نشر ما تردد عن مذكرات نسبت إلى رئيس الحكومة الأسبق المفكر عبد الله إبراهيم، بينما برع الزميل حاتم البطيوي في استخراج عصارة تجربة المستشار عبد الهادي بوطالب.
مرة سئل وزير خارجية مصر، الدكتور بطرس غالي، الذي أصبح أمينا عاما للأمم المتحدة، عن أفضل أسلوب ممكن لكتابة المذكرات، وجاء رده في كتابه الذي حمل عنوان «طريق مصر إلى القدس»، معتمدا على ما كان يسجله يوميا من خواطر وأفكار، وما يدونه من وقائع، حتى إذا عاد إليها وجدها طرية تنعش الذاكرة.
الكتابة الصحفية ذات النكهة التاريخية التوثيقية، لا تلغي مهام ومسؤوليات المؤرخين، فلكل طرف اختصاصاته ومداركه. ولا تشابه أحكام المؤرخين في أبعادها الشمولية استخلاصات الكتاب الصحفيين، إلا أن الأمرين يتكاملان. وفي عصر ثورة المعلومات وغزو التكنولوجيا، تسابق كتابة المذكرات نفسها. وتلك بداية الطريق لفتح كتاب التاريخ الذي تنشر حروفه على رقعة الجغرافيا.
لا بأس إذن من استحضار تلك المقولة الشهيرة عن نكسة زعماء عرب، قالوا إنهم رغبوا في تغيير التاريخ، وإذا بهم يخسرون جغرافية الأرض والواقع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى