شوف تشوف

كلها وهمو

وسط زحمة الأخبار المتسارعة حول نتائج قمة الدب الروسي في سوتشي حيث اجتمعت إيران وتركيا وروسيا للدفاع عن وجودها في سوريا، وقمة الرئيس الأشعث دونالد ترامب في وارسو حيث اجتمعت إسرائيل والعرب وأمريكا لإعداد الحرب على إيران، هناك لاجئون سوريون تشتتوا عبر بلدان العالم لم يعد لهم من أولويات سوى إصلاح الأعطال التي لحقت أجسادهم.
ووسط هذا العالم الأزرق المترامي أتابع بين وقت وآخر ما يدونه بعض هؤلاء المهاجرين، منهم واحد اسمه أبو سعود، أعجبني ما دونه أمس، ووجدت أنه فعلا يلخص هموم المواطن العربي العادي الذي لا يبحث سوى لكي يعيش بسلام بأسنان سليمة.
أتقاسم معكم تدوينته لعلكم تكتشفون أن صراع الكبار في الشرق الأوسط والشام على المعابر المائية وأنابيب البترول والغاز لا يهم الناس العاديين الذين لديهم مشاكلهم الصغيرة والبسيطة :
“لديّ ضرسان مقلوعان من أيام سوريا والنظام ما قبل الثورة، ضرس على اليمين وضرس على اليسار، كنت كلما آلمني ضرسي أذهب إلى الطبيب وأقلعه دون عذاب ضمير ودون أدنى شعور بقيمة الضرس، وما قيمة الضرس إذا كانت حياتنا كلها بلا قيمة.
الآن في ألمانيا، أعيش بحرية وصار لدي بعض اليوروهات، 500 يورو تقريباً، وقررت أن أصلح ما يمكن إصلاحه فيّ، فذهبت إلى طبيب الأسنان لأزرع أضراساً جديدة من النوع الأبيض المحترم، فقال لي طبيب الأسنان الألماني: هذه الأضراس تكلفك ثلاثة آلاف يورو تقريباً.
اندهشت بالمبلغ، وصرت أقول لنفسي: 3000 يورو، وهذه بداية الإصلاحات !
تأملت الأفق وفكرت بنفسي، وبلحظة جرد سريعة لما خربه فيّ الدهر والقهر وسوء التقدير، اكتشفت أنني أحتاج إلى أموال الخزانة الأمريكيّة لإصلاحي، فعزفت عن الموضوع ونسيته.
لكن دائماً تأتيك الحلول من حيث لا تعلم، وهذه المرة يأتي الحل من تركيا، بلد حلول السوريين، فقد أخبرتني أختي أنها قامت بزراعة ضرس لها في تركيا وكلفها الأمر 2000 ليرة تركيّة، أي ما يعادل 400 يورو تقريباً.
وأضافت أختي أن الليرة التركيّة هابطة هذه الأيام، وزراعة ضرسين ستكلفني 500 يورو تقريبا، وهو المطلوب..
تذكرت أن لدي زيارة قريبة إلى تركيا، ومن وقتها رحت أتابع أخبار الليرة التركيّة والملف التركي الأمريكي، ليل نهار أقلب بين المحطات وأتابع تغريدات ترامب على تويتر وتصريحات أردوغان وأخبار القسّ الأمريكي والمؤامرة على الإسلام وأمامي على الطاولة ورقة وقلم، أحسب من اليورو إلى الليرة التركيّة وأتحسس أضراسي المقلوعة.
غرقت في الأخبار وتحسس أضراسي وصارت أسناني تتفاعل مع الأخبار. حزنت على تركيا والليرة التركيّة وعلى الإسلام، لكنني لم أنسَ أضراسي، صرت عندما أتابع أخبار الجزيرة التي تصدّر صورة تركيا بأفضل أحوالها الاقتصادية، قلبي يفرح وضرسي يحزن، فأقلب على قناة العربية فيحزن قلبي ويفرح ضرسي.
وما بين آلام القلب وآلام الضرس أنتظر الفيزا التركيّة بفارغ الصبر لأزرع أضراسي وأعود إلى ألمانيا أدعو لتركيا بالفرج بقلب صافٍ وأسنانٍ بيضاء محترمة”.
وهكذا فصديقنا المهاجر السوري في ألمانيا لا يهمه أن تسفر قمة وارسو عن اجتياح العرب لإيران وإعلان بداية انقراضهم، العرب أقصد، كما لا تهمه أن تسفر قمة سوتشي عن تقسيم سوريا بين المنتصرين بعدما استحال إسقاط النظام، بل كل ما يهمه هو أن تسقط الليرة التركية لكي يكون بمستطاعه شراء أسنان محترمة يزرعها في فمه الذي خربته القهوة والنبيذ الرخيص والسجائر.
ومثلما يحلم صديقنا المهاجر السوري بأسنان بيضاء في عيادات أسنان تركيا يحلم ملايين الرجال العرب الصلع، بينهم مئات الآلاف مِن المغاربة، بزراعة مساحات محترمة من الزغب فوق رؤوسهم داخل عيادات زرع الشعر التركية التي تملأ عروضها شبكات التواصل الاجتماعي.
وهكذا أصبحت تركيا عاصمة زراعة الأسنان والشعر يحج إليها العرب لإصلاح ما أفسده الدهر.
وقد ذكرتني حكاية صديقنا السوري مع أسنانه بحكاية أحد السجناء الذي قضى فترة اعتقال في سجن عكاشة، واستغل وجوده في السجن لإصلاح الجزء العلوي من أسنانه في المصحة التابعة للسجن. فجاءه الإفراج بعد انقضاء فترة محكوميته، لكنه ما لبث أن عاد بعد ثلاثة أشهر بسبب جنحة ارتكبها، وعندما سألته لماذا لم يتعظ من فترة اعتقاله الأولى قال لي إنه لم يعد لأنه ألف السجن ولكن لأنه يريد إتمام إصلاح الجزء السفلي من أسنانه في مصحة السجن.
وهكذا فقد اكتشف بعضهم مجانية الخدمات الصحية التي توفرها المؤسسة السجنية فأصبحوا يقترفون ما يدخلهم للسجن من أجل إجراء الفحوصات والعمليات الجراحية، وبينما ينشغل السجناء بالبحث مع دفاعهم عن البراءة أو تخفيف الأحكام أو تحرير طلبات العفو، ينشغل هؤلاء بتحرير طلبات لرؤية الطبيب المعالج للفوز بموعد وسرير في المصحة.
وعندما كنت في عكاشة عايشت حكاية سجين جاء إلى السجن حاملا معه ملف تحاليله وصوره الإشعاعية من أجل إجراء عملية على القلب، “السيد جاي واجد، خصو غا البنج”. وفعلا نجح في الحصول على موعد وأجرى عمليته على قلبه وغادر السجن بعد انتهاء محكوميته، وهادوك اللي مشاو للسبيطار وشدو الرونديفو راهم باقين يتسناو النوبة، وعلم الله كون راه مات فيهم النص غي بالفقصة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى