شوف تشوف

الرأي

لماذا يتوارى سياسيون إلى الخلف؟

عندما أسندت حقيبة وزارة الصحة إلى رجل التخطيط والاقتصاد الطيب بن الشيخ، ساد اعتقاد بأن مهاراته في تفكيك المعادلات الاقتصادية، سيسخرها للغوص في أعماق قطاع عانى كثيرا من غياب وتذبذب الرؤية. وكان هم الوزراء المتعاقبين أن يغادروا مناصبهم وهم في صحة أقل مدعاة للقلق.
من الدكتور عبد المالك فرج، أول وزير في القطاع، مرورا بالدكتور عبد الكريم الخطيب الذي ترك مصحته للانشغال بمشاكل لا نهاية لها، وصولا إلى الدكتور عبد المجيد الماحي، ثم الحركي رحال الرحالي.. كان الطيب بن الشيخ أول مسؤول من خارج قطاع الصحة، يعهد إليه بتشخيص أمراضها، مع أنه لم ينظر في مجهر آخر غير بيانات التخطيط. ولم يشخص أي حالة مرضية، باستثناء حالة البلاد عند اجتيازها أزمات هيكلية عميقة.
مهمة عسير وشاقة، لاشك في ذلك. فالقطاعات عادة تدنو مشاكلها وأزماتها أكثر إلى ذوي الاختصاص، لكنها تعن أمام الوافدين الجدد الذين لا يتوفرون على معارف ومدارك ذات صلة. والظاهر أن استوزار الطيب بن الشيخ كان مطلوبا، بحكم مكانته وقتذاك في قيادة تجمع الأحرار عندما كان يتزعمه أحمد عصمان. وسيتكرر المشهد نفسه مع وزير آخر هو الراحل التهامي الخياري، المهندس الباحث الذي وجد نفسه يدير قطاع الصحة في الطبعة الأولى لحكومة التناوب.
بيد أن الدكتور عبد الرحيم الهاروشي سيخلف الطيب بن الشيخ في لحظة ترافقت وإجرائه أول عملية جراحية فريدة من نوعها في المغرب. وعندما استضافته القناة الثانية بدا الرجل إنسانيا وفيا لفكرة الصحة التي يجب أن تكون في خدمة الجميع. وكان الطيب بن الشيخ وراء تعبيد الطريق، وإن كانت مهمته انحصرت في بحث يلائم البنيات والتجهيزات مع واقع الأوضاع الصحية في البلاد. واهتم في غضون ذلك بالتعاطي والقطاع الصحي كمعادلات رياضية، سكب عليها خبرته في التخطيط، بينما كانت الموازنة وضآلة الإمكانات تحول دون تحقيق الأهداف الكبرى.
شيئان تلازما في تجربة الرجل، أولهما أنه كان ينتمي إلى تيار اليسار، قبل أن تستقطبه السلطة التي كانت تختار أطرها وقتذاك من بين منظري اليسار الذين يحسنون الكلام، ويجادلون بحلول جذرية لكل المعضلات والآفات. وكما همت فترة الاستقطاب في السنوات الأولى لاستقلال المغرب شخصيات بارزة، خصوصا من حزب الشورى والاستقلال، مثل المستشارين عبد الهادي بوطالب وأحمد بن سودة والوزير محمد الشرقاوي، انصرفت مرحلة لاحقة إلى البحث في صفوف الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم الاتحاد الاشتراكي.
أما ثاني التلازمات، فهو أنه كان الوزير الذي لا يغادر منصبه إلا كي يعود إليه، منذ بدأ كاتب دولة في التخطيط إلى وزير منتدب في الاقتصاد إلى وزير للصحة، لكن الأغرب أنه حين دفع بتجمع الأحرار لأن يجرب حظه في المعارضة، جراء خلافات سياسية حول تشكيل إحدى الحكومات، تم الاحتفاظ بـ«الجوكير» المتمثل في الطيب بن الشيخ الذي كان ينظر إليه رجل النظام وليس الحزب.
وعلى رغم أنه كان خبيرا في مسائل التخطيط والتنمية، فقد شرع في مراجعات ستؤدي لاحقا إلى استبدال منظومة المخططات الخماسية أو الثلاثية برؤية مغايرة، حين أدرك أهل القرار أن الانفتاح يحتم إبعاد فكرة التخطيط الذي كان سائدا في الدول ذات النهج الاشتراكي.
هل التطورات السياسية غيرت مفاهيم الطيب بن الشيخ أم أنه حولها إلى أداة تغيير؟ في كل الحالات، فقد كان من الشخصيات المؤثرة في مسار تجمع الأحرار، إلى جانب أحمد عصمان ورفاقه البارزين آنذاك، أمثال عبد السلام زنيند وعبد الرحمن الكوهن ومحمد حدو الشيكر وعبد اللطيف الغيساسي. لكنه في لحظة انعطاف اتجه لقطع صلاته بالحزب، أو لعله كان بصدد التفكير في تغيير مسار تجربته السياسية.
اختلف الطيب بن الشيخ مع المنشقين عن أحمد عصمان الذين أسسوا الحزب الوطني الديمقراطي، بزعامة محمد أرسلان الجديدي والنقيب عبد الحميد القاسمي والدكتور جلال السعيد، ووزير المالية الأسبق عبد القادر بن سليمان وآخرين، ثم اختلف مع من تبقى في الحزب. إلا أنه لم يغامر بإعلان انشقاقه، وإن لم يخف اختلافه مع ما كان سائدا.
مهندس التخطيط والتنمية الجهوية، ظل يثير اللغط والمزيد من الجدل، جراء توليه رئاسة المجلس الإقليمي في مكناس، فقد كان أكثر اهتماما بالبعد الجهوي في السياسة والتخطيط، وكان خصومه كثرا على قدر نجاحاته وإخفاقاته.
المشكل أن بعض السياسيين في المغرب يتوارون إلى الخلف، بمجرد الابتعاد عن مسؤولية إدارة الشأن العام، مع أن تجربة الطيب بن الشيخ تصلح لأن تكون مرجعية في التنمية الجهوية التي كان سباقا للمناداة بها، في فترة هيمنة الدولة المركزية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى