شوف تشوف

الرأي

محاكمة الحيوانات؟ البهائم والنظام القضائي

في العصور الوسطى تمت محاكمة الحيوانات في طقوس من المرافعة والقضاء والشهود والأدلة، لخنازير وبغال وحمير وجرذان وحشرات؟ فهل كان هذا مؤشرا لاحترام البشر الروح المودعة فيهم؟ أم هي فلسفة العصر؟
في 14 يونيو من عام 1494م دخل خنزير شارد إلى بيت جيهان لينفانت (Jehan Lenfant) وفيه طفل رضيع؛ فنهش وجه الغلام وعنقه؛ فتم إلقاء القبض على المجرم وسيق إلى القضاء، وهناك تم إيداع الخنزير المعتدي في دير، ثم نطق القاضي الحكم على الشكل التالي: (نحن وبامتعاض وهلع شديدين أمام ما حدث باغين العدالة نحكم بشنق الخنزير خنقا حتى الموت).

هذه المحاكمة خلدها الرسام إدوارد إيفانس (Edward Evans) في لوحة ناقلا تقرير المحكمة التي كانت تحضر الشهود للإدلاء بشهاداتهم، بما يتطلبه القانون من الحق والعدل. ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه. ونشرتها مجلة در شبيجل الألمانية (العدد 9 من عام 2015 صفحة 122).

قد يبدو لنا الأمر مضحكا شيئا ما هذه الأيام ولكنها فلسفة العصر. هذا ما قاله الفيلسوف (جوستين سميث) من جامعة ديديروت ـ باريس (Univrsite – Paris – Diderot) أن هذا ما كان يتم في أوربا ولمدة قرون، بين القرن التاسع والسابع عشر، تم هذا في كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وسويسرا؛ فكانت الحيوانات تقدم للمحاكم وبمراسم عادلة.

والسؤال من الحادثة أعلاه، هل كانت المحاكمات تقتصر على الخنازير فقط؟ أو أصناف محددة من البهائم؟ والجواب لا؛ فقد تمت محاكمة الخيل والبغال والحمير والقمل والضفادع والكلاب والعجول بل والجرذ والجراد. وكانت التهم تتراوح بين القتل واللعن (التجديف) وإفساد المحاصيل.
كان المدافعون يعينون، ويطلب الشهود للحضور والإدلاء، بل أحيانا كانت يجري الاستنطاق لنفس بهيمة الأنعام. كيف؟
وإذا ثبتت الجريمة تم تطبيق الحكم وكان في الغالب حكم الإعدام، فكانت الحيوانات يقطع رأسها، أو تشنق، أو تحرق، أو تدفن على قيد الحياة، كما حصل في قصة بغل حرون.

من هذه القصص يروي أنه في عام 1474 م تمت محاكمة ديك في (بازل) في سويسرا بتهمة بشعة ضد الطبيعة حينما باض بيضة والديكة لا يفعلون. تم تنفيذ الحكم فيه أن يحرق حيا مشويا (هل أكله أحد لاحقا؟).

وفي عام 1750م قدمت أنثى الحمار (أتان) إلى المحكمة بتهمة الفاحشة من رجل قام بها، وأدانت المحكمة الأتان والرجل بتهمة عمل سدوم وعمورية (قوم لوط)، أما الحمارة فأطلق سراحها بشهادة قس زكاها لدى المحكمة، أنه يعرفها منذ أربع سنين، ويشهد لها بالعفاف وطهارة الذيل، وأنها لم تمارس الفاحشة قط، أما الزاني فكان نصيبه الموت.

كذلك اشتهرت محاكمة الجرذان في أوتون (Autun) عندما طلب رهط من الجرذان المفسدين في الأرض للمثول أمام القضاء أنهم أفسدوا الزرع والضرع، وطالبهم القضاء بالحضور عام 1522م، فقام محامي الدفاع بالاعتذار عن حضورهم لبعد المسافة وخطر الطريق من الأعداء القطط.

أيضا تمت محاكمة الجراد للإفساد في الأرض وإتلاف المحاصيل، فحكم بالإعدام على بعضها دفعا للآخرين إلى الفرار والنجاة.

وفي عام 1587م تمت مطالبة القاضي ضد الديدان أن لا يسرع في حكمه، ذلك أن النباتات والفواكه ليست فقط للإنسان، بل لدواب الأرض أيضا، كي تبقى على قيد الحياة. وقام مدافع آخر يزعم فيها قصر حياة موكله وقصور أهليتهم فلا بد من الرحمة فيهم.

في عام 1597 وفي مدينة (شيلدا) تمت إدانة بغل وسلطعون، وحكم عليهما بالإعدام، فأما السرطان فأغرق حيا في الماء وأما البغل المسكين فدفن على قيد الحياة وهو ينهق ارحموني.

في الواقع هناك في الهند فلسفة كاملة لعدم الإضرار بالبهائم، وفسح الطريق للبقر، وتقديم الحليب للجرذان والفئران، وترك السعادين يمرحون ويعبثون بدون مضايقة، بل إن أحد الآلهة ارتسم في صورة قرد.

يعلق الفيلسوف (جوستين سميث) على قضية المحاكمات التي كانت تجري للحيوانات في العصور الوسطى أن كل هذا تم إنشاؤه من أجل وضع النظام القضائي العادل، ذلك أن القانون الوضعي أخذ في الحساب معاقبة العاقلين فقط، ولكن القوانين اختلفت مع توالي القرون، فكانت قديما خليطا من العهد القديم (العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص) والطقوس والعقائد القديمة من الوصايا العشر مع مزيج من الفلسفة، وفي حال وقوع ظلم من حيوان على حيوان أو على الإنسان؛ فوجب إقامة العدل من أجل استرداد التوازن الكوني فالكون يقوم على العدل.

ربما يذكرنا هذا ما جاء في سورة التكوير عن الوحوش التي تحشر، (وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت) وذكر بعض المفسرين حديثا يقول ما معناه إن ميزان العدل يقوم حتى إن الله ليقتص من الشاة (أو المعزة) القرناء التي ضربت أختها بدون قرون.

ولأن سورة النمل تشير إلى رجاحة عقل النملة، التي نصحت قومها بالهرب من زحف جنود سليمان فيضحك الحكيم، كما أننا نرى في سورة الأنعام (الآية 38) أنه ما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم مثلكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون، فهل هو تبشير بعالم مواز كامل لعالمنا الحالي؟ لا أحد عنده الجواب.

كانت هذه هي فلسفة العصر قبل أن يمنح الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت) مع فكر التنوير الروح للإنسان، ويعتبر الحيوانات آلات بدون روح ناطقة، ولم يعد يتهم أو يحاكم حيوان، كما لا يحاكم أو يدان إنسان قتل قطة أو كلبا أو عذبهما.

وهنا يقف الفيلسوف (جوستين سميث) ويقول هل كان هذا من مصلحة البهائم؟
والجواب قطعا لا.. حينما ننزع عنها الروح، وهو ما شجع نبي الرحمة (ص) على رد الاعتبار لها، بل واعتبار أن من يخسر روحه ينحط إلى أقل من البهيمة (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا)، كما جرت التعليمات على حسن الذبح بدون ألم للضحية، وأن بغيا من بني إسرائيل غفر لها بأن سقت كلبا الماء، وأن امرأة دخلت النار بسبب جوع قطة لم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض.
بقي أن نشير إلى أنه في تاريخنا يروى أن الحاكم بأمر الله الفاطمي انزعج من نباح الكلاب ليلة؛ فأمر بتطهير القاهرة منها؛ فهجم جنود السلطان على كل كلب يلهث؛ فكانت مذبحة عارمة ذهب ضحيتها ثلاثون ألفا من شعب الكلاب ونام الحاكم بأمر الله بدون أي إزعاج.

كما نعرف من تاريخنا أن الفتية الذين هربوا من المدينة إلى الكهف رافقهم كلب، في فلسفة خاصة تقول أن حياة الوثنية ضارة حتى بالكلاب، ومما يروى عن جنون الحكام كيف أمر (كزركسيس) حين فشل في حملته على اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، بمعاقبة البحر الذي أغرق سفنه فانهمك الجنود في جلد البحر حتى كلت أذرعهم.

وأغرب ما نال الحمير من الاضطهاد كان على يد شبيحة (بشار البراميلي) حيث جمعوا قطيعا من الحمير المساكين؛ فساقوه إلى منحدر من الأرض لا تقوى على الهرب منه، ثم بدأوا بقتلها رميا بالرصاص، بدون محاكمات، بدون مرافعات، بدون تهم، كما يفعلون مع ثوار الحرية والكرامة، فلم ينج حمار ينهق. وكان الشبيحة من المنظر يتضاحكون، فمن كان الحمار حقاً؟ سبحانك ربي. حاشا الحمير فهو ملك الصبر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى