الرأي

محتويات القرآن

نظر إلي صديقي وقال: لقد وصلت إلى القناعة التي تقول إن الإسلام انتهى دوره حاليا!
الرجل يثق بي، ويعرف أن كلماته هذه، قد تكلفه كثيرا لو صرح بها في مكان، لايسمح بهامش كاف من الاعتقاد، فضلا عن حرية التعبير؟
علينا أن نسمع لهؤلاء، ولانستخف بالقناعات التي وصلوا إليها، فالأنترنت حاليا لم يبق فيه مكان للاختباء، كما أن تسربات (ويكي ليكس) و(سنودون) ومن قبل الاسترالي والضابط الأمريكي، جعلهم يدخلون إلى المخابيء السرية، وماذا يقول القوم عن بعضهم بعضا، وحاليا عن طريق اليوتيوب يمكن أن تسمع على سبيل المثال لرجل يتصدر برنامج (سؤال جريء) في قناة اسمها (الحياة) فيسخر بكل معتقدات المسلمين؛ و أمثاله كثيرون.
التفت إلى صديقي وقلت له آمن بما تشاء فالقرآن يسمح لك أن تؤمن وتكفر، بدون أن يطير رأسك؟ (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وتختم سورة الرعد بآية تفيد بإنكار الرسالة (ويقول الذين كفروا لست مرسلا) فهذا أمر اعترف به القرآن وسجله.
وفي آخر سورة (يس) تأتي قصة مؤثرة عن رجل جاء إلى نبي الرحمة «ص» فأخذ بيده عظما قد بلي؛ ففركه فتحول إلى تراب، ثم التفت إلى نبي الرحمة «ص»؛ فقال: يا محمد أربك يعيد هذا بعدما رم؟ أجابه نعم ويدخلك جهنم؟
تأتي الآية بعرض جد مؤثر، ولكن بعرض كامل حجة الخصم: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم؟)
رب العزة والجلال يقول إن الرجل جاء ليعلم الله درسا في المنطق والعقلانية؟ تأملوا كلمة (وضرب لنا مثلا).
القرآن يجيبه بمنطق صاعق وبسرعة، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة. المصنع الذي ينتج سيارة وطيارة، يمكنه أن يعيد إنتاجها. بل بأسرع وأوفر وأفضل. ومنه جاءت الآية من سورة الروم تقول (وهو أهون عليه).
(وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ـ الآية 27).
أحيانا أغرق في التفكير لأصل إلى معادلة مريحة، جاءتني من فكرة الكمبيوتر (البرمجة). حاليا كل إنسان وكائن يتشكل وفق خريطة جينية، سواء ذبابة الخل والفاكهة أو التفاحة أو الفيل، وبالطبع الإنسان.
الآن لو أن هناك كمبيوتر متقدم جدا، وأمامه كومة من رمل وطين، وعنده برنامج كافي للتصنيع؛ فهو سوف يأخذ المواد الأولية ويركبها؛ فيخرج الكائن المطلوب بما فيها من يموت ومات.
فيلم (جوراسيك بارك) اعتمد هذه الفكرة، حين أمكن أخذ كود وراثي، من دم بعوضة حفظت في الراتنج قبل سبعين مليون سنة (كريات بيضاء فيها كود وراثي خلاف الحمراء)، ثم يؤخذ لتحقن به بويضة سحلية حالية، ليخرج ديناصور يشهق ويهز الأرض بأطنانه الثقيلة وأسنانه المخيفة وعقله القاصر.
الآن يمكن أن يحدث نفس الشيء لمن مات وانتهى، وبقي منه ولو أي أثر من قطعة عظم، أو حتى أي بقية من نسيج ولو خلية، وهي الفكرة التي أوحت لشاب طموح (سفينتي بيبو) هرب من كاسترو إلى أوربا؛ فأخذ الجنسية الألمانية مع مقعد أستاذ مدرس بسبب هذه الفكرة، حين طلب من المتحف البريطاني أن يمكنوه، ولو أخذ خزعة بمقدار ر أس إبرة من أي مومياء، حيث يمكن ومن خلال معرفة تركيب الكود الوراثي في الخلية الوصول إلى إعادة تركيب الكائن كلية. (علم الباليوجينيتك)
ما أردته من حديثي مع صديقي محمد يذكرني بقصة الإيمان لنديم الجسر، حين وضع ديالوج (جدل) بينه وبين تلميذه (حيران) في فهم القضايا الفلسفية.
الشيء الأول الذي جاء به القرآن لم تكن التشريعات، ولا حتى العبادات، فوجب علينا فهم الرسالات والنبوات؟ ولماذا جاء بالأصل أي نبي ورسول (الرسول نبي، والنبي ليس رسولا ولا مطالب بالتبليغ، ومنه قفز رقم الأنبياء إلى عشرات الآلاف، مقابل 25 رسولا في القرآن، ولكن عددهم أكبر بكثيرـ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وكلم الله موسى تكليما).
حين نقرأ القرآن المكي نرى أنه يعنى بالدرجة الأولى بتخليص التصور وبناء رؤيا كونية، لو أخذنا سورة (ق) مثلا لرأينا بشكل واضح وفي عدة جولات من (الطبيعة) و(التاريخ) و(النفس) تأسيس معنى الموت والحياة.
هذا الوجود الذي يلفنا يحتاج لتفسير، فماهو الكون وما معنى أن نأتي إليه؟ إلى أين نمضي؟ مامعنى الموت؟ الفيلسوف الفرنسي (ميشيل هوليبوك) الذي كتب كتابه المثير للجدل (الاستسلام) اعترف أنه لما قرأ القرآن غير فكرته عنه، كما أنه يعترف أن أكثر مايدفعه للتأمل هي ظاهرة الموت؟
لقد بنى الفراعنة كل الإهرامات، وسخروا مئات الآلاف، من أجل الجواب على معنى الموت، بل إن كل الفلسفة تنطلق من فكرة الموت، ولا أظن أن أيا منا تفارقه الفكرة، بل ترجع وترجع بإلحاح، وكلما تقدم الإنسان في العمر شعر أنه يذوب، ويغادر الحياة، وأن بوابة تفتح فمها واسعة لالتهامه؟
إذن الدين يجب أن يكون حاضرا، وليس ثمة ثقافة على وجه الأرض إلا ورسمت فلسفتها الخاصة، حول معنى الوجود والحياة والموت؛ وحسب ما قرأت أن الشيخ الفيزازي المغربي أيضا كانت نقطة التحول في حياته المرض، ومن جاءه في لحظة الضعف، فقرئ عليه القرآن ليحوله كلية إلى طريق جديد.
المغني (كات ستيفن) الذي اعتنق الإسلام كان مريضا قرأ القرآن فصدم حين أراد معرفة المؤلف؟ فلم يجد مؤلفا فغرق فيه ومازال.
وهذه الظاهرة أي اعتناق الإسلام بدون شيخ بلحية ومسبحة يتكرر جدا، وفي القرآن والله متم نوره ولو كره الكافرون، وفي افتتاحية مجلة در شبيجل الألمانية في أحد أعدادها في صورة الغلاف الرئيسية كتبت تقول: إنه أكثر الأديان ديناميكية وكسبا للاتباع ومنافسة للمسيحية.
صديقي الحائر محمد قلت له من الضروري للإنسان أن يصفي هذا الموضوع ليصل إلى القناعة التي تقول له ما معنى هذا الوجود؟
الناس هنا أنواع، منهم المؤمنون، ومنهم الملحدون، ومنهم اللا أدريون الغنوصيون، ومنهم المترددون لم يصلوا لأي دين أو أي لون من أي قناعة وحاليا هناك رجل في أمريكا يعمل دورات في الإلحاد؟ قد نعرض مدرسته في مقالة مستقلة.
نحن إذن أمام شجرة من الإنسانية تفترق وتتفرع، وأذكر من جودت سعيد كيف كان يدرس الضباط الصغار في كلية التدريب المعنوي في الجيش السوري حين كان جيشا، أن البشر جميعا يقفون أمام هذا السؤال المصيري مامعنى أن يكون الإنسان سني وشيعي ودرزي وعلوي، بل مامعنى أن يكون الإنسان على مذهب الأمام مالك أو أبو حنيفة؟
رواها الشيخ سعيد حين سأل والدته رحمة الله عليها لماذا نحن أحناف وما لفرق عن الشافعية؟ قالت له بهدوء وطمأنينة نحن على المذهب الصحيح؟
نفس الإشكالية تحصل على مارواه (القبانجي) العراقي عن الشيعي الذي يدخل الجنة، أما من اعتنى به من أهل السويد لمدة عشرين عاما، فلربما أعطي بيت من طين ولكن في جهنم. ويصعد الخلاف طبقا عن طبق؟ مالفرق بين المسيحي والمسلم؟ بل مالفرق بين المؤمن والملحد؟
هنا على هذا الجذع الكبير يجب أن يعترف الإنسان أن البيئة تصنع فكره إلى حد كبير، ومنه كتب (غومريش) في كتاب سلسلة عالم المعرفة عن (مختصر التاريخ) أن الفكر التنويري في أوربا، وصل إلى هذه الحافة من الاعتراف والاحترام المتبادل بين الآراء جميعا، أيا كانت وأهمية ذلك إيقاف نزيف الحرب المبرمجة، لو أن كل واحد قال أنا الممثل الشرعي الوحيد عن الله.
ومن آثاره رأينا قتل السواح في تونس، ونسف المدعي العام بركات في مصر، وقتل الحريري في لبنان، واغتيال موسى الصدر في ليبيا، وقتل باقر الصدر وأخته أم الهدى بيد صدام، ثم من جديد قتل صدام بيد من حقدوا عليه؛ فضحوا به في يوم العيد الأكبر، وأعياد الميلاد مثل كبش أملح، والكل يشرب من نفس العين الحمئة.
قلت لصديقي إنها النتائج إذن.
لقد أخرج القرآن نموذجا بتصور رائع متسامح يتعامل مع الكون بمنطق الرحمة؛ فهذا هو الدليل، وفي القرآن حين أنكروا رسالته كان الجواب أن الله شهيد بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب.
إذا استطعنا تخليص الضمير جاءت العبادات بأشكال لانهائية، وليست طقوسا ميتة بدون معنى، بل تأملات وجدانية رائعة، وهي موجودة في كل ثقافة، وفي صور لانهائية.
أما التشريعات فهي الطريق نحو العدالة، وكما قال ابن قيم الجوزية فحيث العدل فثم شرع الله.
أي مجتمع يحقق كما أكبر من العادلة؛ فهو أقرب إلى الله، وأما من مارس الطقوس ميتة ورسخ الظلم في مجتمعه، فهو لن يقترب من الله إلا بعدا.
حاليا يدور في الأنترنت قياسات خاصة للمجتمعات، التي حققت كما أكبر من العدل، وعلينا التسليم به، لأن مجتمعاتنا خسف الله بها الأرض، أو كما جاء في الحديث الطويل: إذا فعلت خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، ليختم الحديث بقوله: فلينتظروا ريحا حمراء أو خسفا أو مسخا..
الحديث : (قال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم: ‏إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء فقيل وما هن يا رسول الله قال إذا كان المغنم دولا (يتداول بين أيدي محدودة ولاتصرف لأصحابها) ‏والأمانة مغنما (الأمانة غنيمة للسرقة) والزكاة ‏مغرما (دفع الزكاة مصيبة)، ‏‏وأطاع الرجل زوجته، وعق ‏أمه، ‏‏وبر ‏‏صديقه، ‏وجفا ‏أباه وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير واتخذت ‏القينات ‏(الرقاصات) والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، ‏ فليرتقبوا ‏عند ذلك ريحا حمراء أو خسفا ‏ ‏ومسخا ؟ )‏ رواه الترمذي في سننه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى