الرأي

من هم مواطنو العالم؟

يتأكّد مع توالي الأحداث من حروب وكوارث طبيعية أو إنسانية أنّنا أمام عالم يسير ربّما بأكثر من سرعتين، ويَنْظر إلى مواطنيه بأكثر من نظرتين. ليس مهما اليوم أن تحمل في يدك جواز سفر وأن تلج بوابات المطارات والحدود وتضعه على مكاتب الجمارك لبلد من البلدان لتخضع لإجراءات الدخول المعتادة بكلّ بساطة وأريحية وأن تفتّش أنت وحقابك بكلّ ما يليق بك من كرامة إنسانية، وليس مهما كذلك أن تعتقد أنّك من بلد ذي خريطة وعلم أو نشيد وطني لكي تردّد مع نفسك ولو بصوت خافت أنا مواطن من هذا العالم. الأمر لم يعد بهذه السهولة، ففي كلّ نقطة عبور حدودية وجمركية تعرف قيمة نفسك وشعبك في بورصة البلدان، وستصل إلى حقيقة مُرَّةٍ هي أنّ العالم كان هكذا دائما يفصل بين من يستحقّ أن ينال شرف المواطنة العالمية وامتيازاتها، ومن ينبغي أن تسدّ أبوابها أمامه أو على الأقلّ أن يُنظر إليه نظرة ريبة وتشكيك في ذمته الإنسانية. إنّ التناقض الصارخ الذي تسقط فيه العولمة اليوم يتحدّد بالضبط في هذا الجانب المزعج من المسألة كيف بالإمكان أن تنتقل بضاعة صينية أو تركية أو هندية… بسيطة من أواني منزلية أو جوارب أو ملابس داخلية… بكلّ حرية عبر حدود الجغرافيا فيما يستعصي ذلك على حركية البشر وتنقلاته عبر البلدان والأقطار. المثير كذلك أن نستمرّ في الحديث عن حقوق كونية وأنّ العالم قد صار قرية واحدة موحّدة، فيما هو في الحقيقة يزداد تمزّقا وانشطارية بين من يعتبر حقيقة مواطنا عالميا يتمتع بحقوق خاصة تستلزم الدفاع عنه وحمايته باسم القيم الإنسانية المشتركة، وبين من ليست له الأهلية بعد ليخضع لهذا الاعتبار والتقدير.
كان هذا الأمر سائدا في فترة الاستعمار عندما كانت الدول المستعمرة تؤكّد لنفسها ولغيرها بأنّها تقوم بمهمّة حضارية ومن حقّها أن يحظى المستعمر المتحضّر بالأولوية الإنسانية والاعتبارية على ما أسمتهم بالأهالي وشعوب المستعمرات القاصرين وغير المؤهلين لنيل شرف المساواة الحضارية. مع فترة استقلال البلدان المستعمرة ظهر هذا المصطلح البذيء في تقسيم الكرة الأرضية حسب تصنيف حاد للبلدان غير المرغوب فيها بالقذف بها في خانة العالم الثالث، وهكذا كان هناك عالم أوّل لدول الاقتصاد الحرّ وعالم ثانٍ للمعسكر الشرقي ذي النظام الاشتراكي وعالم ثالث في معظمه من البلدان المستعمرة سابقا وأصبح المشهد أشبه بمنصة تتويج في الألعاب الأولمبية بين من له الحقّ في أن ينال الميدالية الذهبية ومنْ منَ المفروض وعلى مضض أن يُوشّح بمدالية فضية ومن عليه أن يكتفي بميدالية برونزية.
اليوم يتّسع هذا الشرخ بين البلدان التي يمكن نعتها بالبلدان المواطنة وغير المواطنة وتمتدّ الأسلاك الشائكة الرمزية والحقيقية بينها أكثر فأكثر، وربّما بُني من الأسوار والحواجز الحقيقية أو النفسية في ما بينها ما فاق طول سور الصين العظيم. لقد صار من اللازم الأخذ بعين الاعتبار هذه الحقيقة التي تقول بأنّ العالم قد أضحى أسوأ ممّا كان عليه في الماضي يؤمن بالانغلاق والحذر الشديد من الآخر، فبقدر ما تتقدّم وسائل التواصل بين البشر في أرجاء المعمور بفضل ما تحقّق على المستوى التكنولوجي عبر الأنترنيت والهواتف النقالة وغيرها من الوسائط فإنّ الإنسان المعاصر قد ازدادت عزلته وأحاطته المزيد من الحدود والحواجز لتحقيق تواصل حقيقي.
الحدث الإرهابي الأخير في مدينة سوسة بتونس، على سبيل المثال، كشف لنا عن خطورة هذا التقسيم بين عالمين منفصلين وتداعياته في الإعلام الأوروبي على الخصوص. وذلك بإبراز الصورة النمطية المعتادة بتقديم ضحايا الاعتداء الغاشم الأوروبيين في عمومهم، على أنّهم ضحايا عالم آخر متوحّش وغامض غير مفهوم لا يشاطرنا القيم الإنسانية المشتركة، وأنّه يشكّل التهديد الحقيقي لهويتنا الحضارية. المؤسف له أنّ هذه المسافة التي تأخذها أوروبا وأمريكا من الإرهاب خصوصا ومن التناحر الطائفي في الشرق الأوسط والقبلي في ليبيا وترك هذا النزيف يتواصل مع آلاف من الضحايا المدنيين والمهجّرين ممّا يعدّ كارثة إنسانية بكلّ المقاييس. كما أنّ صمت هذه الدول المتقدمة إزاء ما ترتكبه الجماعات المتطرفة من مجازر وجرائم حرب وعلى رأسها «داعش» ما دام الضحايا لا ينتمون إلى عالمها وليسوا من مواطنيها، ولا تتحرّك إلّا إذا كانوا أوروبيين، لهي المبرّر لهؤلاء المتطرفين في حشد مؤيّديهم في العالم الآخر المستضعف والمهان. نعم، ستواصل العولمة والنظام الجديد تكرار أسطوانتها المشروحة: العالم اليوم قرية صغيرة، لكنّ القرويين المستضعفين حتما خارجها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى