الرأي

من يطرق الباب؟

تنشطر القصة إلى روايات متناثرة، كل واحد يقتطف منها ما يروق له، وتلتقي كل دروبها وفصولها عند اعتبار الإلحاح ظاهرة إنسانية، لها في الاعتقاد بسلوك «العبد الملحاح» ما يشجع على عدم نفاد الصبر، ومواصلة المسعى وإن بدا النفق بلا مخرج.
مقدم البرامج الشهير في التلفزيون الفرنسي جاك شانصيل رواها عن الكاتب أندريه برتون. وآخرون اعتمدوها مرجعية في الإزعاج الذي ينتهي إلى تفهم. واتخذها المستشار إدريس السلاوي مدخلا لإقناع الزعيم التاريخي لحزب الاتحاد الاشتراكي الراحل عبد الرحيم بوعبيد، بأن المشاركة من داخل الحياة السياسية أفضل من استمرار المعارضة من خارجها. وأترك لحكم التاريخ أن يقضي إن كان نجح أم أخفق.
تقول القصة إن رجلا يهوى عدم مغادرة سرير النوم مبكرا، وضع على باب بيته لافتة مثل التي ترصع أبواب غرف الفنادق، تتمنى عدم الإزعاج، وكتب عليها أن صاحب المنزل «غير موجود.. عودوا في وقت لاحق» فقد يكون هناك إن أسعفكم الحظ.
بيد أن ساعي بريد كان يعرف أن صاحب البيت لا يغادره قبل أن يأتي المساء، طرق عليه الباب بدعوى أن لديه طردا مسجلا، لا يمكن تسليمه لغير صاحبه الذي يبصم بتوقيعه على التسلم والتسليم. طال مقامه بالباب يطرقه من دون توقف، لأنه لم يرغب في معاودة التجربة في اليوم الموالي.
بين غفوة النوم وحركة الصحو، انبعثت حركة من داخل البيت تفيد بوجود شيء دال على الحياة، ثم صاح صوت غاضب: ألم تقرأ ما كتب على الورقة؟ ردد في زمجرة وهو يفتح الباب. فما كان من ساعي البريد إلا أن رد عليه بأنه لا يجيد سوى قراءة العناوين أما اليافطات فقد تركها للنائمين.
هكذا فتح الباب وتحرر صاحبه وساعي البريد.. إلا أن علاقة الشاعر بابلو نيرودا مع حامل الرسائل ستكون مختلفة، إذ نشأت بينهما علاقة انجذاب. كان الشاعر يطل من شرفة بيت ريفي في أعلى الجبل، وقد استقر به المقام بعيدا عن وطنه الشيلي، فيلمح ساعي البريد يعاند ما تبقى من العمر في اختبار قدرته على تطويع دراجة هوائية، تقوده من منحدر السفح إلى أعلى القمة. وانتبه ساعي البريد من كثرة الرسائل التي تقاطرت على الشاعر من كل حدب وصوب، بعد حيازته جائزة «نوبل»، أنه أمام شخصية فذة، ورغب في أن يتعلم من نيرودا قرض الشعر الذي يختلف عن إدراك أي حرفة أخرى.
لم يكتب نيرودا على باب بيته أنه غير موجود، فقد غادر وطنه حين لم يجد مكانا يؤويه، ليكتب في نهاية التجربة ما يفيد بأنه عاش حياته مكتملة، لم يدع منها لحظة واحدة تنفلت، حتى أنه خص رواد الحانات ونادلات مكتنزات بسخاء الكلمة. وكان ساعي البريد الإيطالي آخر من ربط معه صلات توثقت على إيقاع الرسائل المتبادلة مع المعجبين من أنحاء العالم.
بيد أن من يغلق الباب ويحظر على الزوار طرقه، ليس مثل من يعلق يافطات صغيرة تقول: إن الطلق ممنوع والرزق على الله. فغالبية البقالة يتعيشون من «طلق» زبنائهم. ولولا الثقة في أنهم سيعودون في نهاية الشهر لأداء ما بذمتهم من قروض صغيرة، لما كانت هناك تجارة وتبادل منافع. ويردد كثيرون في سرهم أنهم يحمدون الله لأن الدولة لم تتوقف يوما عن أداء أجور الموظفين، واهتدت ذات فترة إلى صرف الرواتب على طول أيام الشهر كي تبقى السيولة في الأسواق.
لا تكون هواية الكتابة على الأبواب فقط. ففي مطاعم هناك من كتب منبها الرواد بأن عليهم أن يدفعوا اليوم دون تقتير، وفي الغد يأكلون ويشربون بالمجان. ولا أحد ينتظر قدوم الغد الذي لا يأتي، غير أن عاشقا أعياه شوق الانتظار ومرت الساعة من دون أن يحضر من كان ينتظره على أحر من الجمر كما يقال، ومن أجل أن يقنع نفسه بأن من ينتظره لا يمكن أن يخلف موعده، عاب على الزمن أنه لم يحضر في الموعد المحدد وتأخر أكثر من اللازم.
وفي بعض من ذلك أنشد أبو الطيب المتنبي:
«أغالب فيك الشوق والشوق أغلب
وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
أما تغلط الأيام في أن أرى
بغيضا تنائي أو حبيبا تُقرب».
تقولون أين الحكاية؟ حسنا فقد ردد المستشار إدريس السلاوي قصة طرق الباب على مسمع الزعيم عبد الرحيم بوعبيد الذي كانت تربطه به صداقة وتقدير. وصادف أن القائد السياسي كان يصب القهوة في فنجانه. هل سها عن ذلك أم تعمد أن يفرغ المادة السائلة في الفنجان المملوء؟ حتى إذا أخذ نصيبه انسكبت القهوة في الإناء.
أدرك المستشار على منطق الإشارات أن الكؤوس المملوءة لا تحتمل زيادة أي مادة. وفي رواية أنه كان يرد بطريقته على محاورة تناهت إلى علمه، مفادها أن دور الزعامات الحزبية في المعارضة ألا تترك الأباريق تفيض بما تحتويه، حين يكون في شكل غضب أو تذمر أو يأس. وفهم المستشار أن بوعبيد لا يحرس الأباريق، ويؤمن بأن كل إناء بالذي فيه يرشح، سواء وضع على النار أو ترك في البراد. ونقل عنه القول، على حد أحد الرواة، أنه لا يضع يافطة على بيته. ولكن هناك يافطات يحملها المتظاهرون في الشوارع ينبغي أن تحظى بقراءة أعمق.
كذلك عالج الزعيم والمستشار نقرات خفيفة على الأبواب، لكن صحفيا أمريكيا رغب في النفاذ إلى عمق أفغانستان، واختار سجل الكنايات المتنوعة على حافلات النقل ليفهم كيف يفكر الأفغان، وتلك قصة أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى