الرأي

مهمات فوق العادة

لم يتردد الزميل محمد العربي المساري في السير إلى جانب الوزير الراحل مولاي أحمد العلوي، وهما يدلفان إلى فندق «هيلتون» في الرباط الذي كان يستضيف مؤتمر القمة العربي لعام 1974. تعمد الوزير أن يمر عبر كل الحواجز، ولم يكن أحد يجرؤ على سؤاله عن مرافقه الذي لا يحمل صفة رسمية. فقد كان اسمه وشكله ونرفزته في حال الغضب، أو ضحكته عند الانتشاء عوامل كافية ليدعه الجميع يمر إلى أي مكان، وعبر أي بوابة.
وجد المساري نفسه داخل القاعة المغلقة التي تحتضن أعضاء الوفود الرسمية، وفي مقدمتهم قادة الدول العربية، دهش لقدرة الوزير مولاي أحمد على فعل الشيء ونقيضه، فهو يعرف أن الجلسات سرية، وفي ذات الوقت رغب في أن يشرك صحفيا مغربيا في رصد وقائعها التي لا تخرج إلى العلن.
قبل أن يتخلص الصحفي من دهشته، قال له مولاي أحمد العلوي: إنك تستطيع أن تقترب إلى الوفد الأردني، وتطلب أخذ تصريح من العاهل الأردني الملك حسين. أضاف: لا تنس أنك صحفي، والفرصة أمامك لن تتكرر. هل أقدم المساري على تلك المغامرة أم تردد؟ لا يهم. فقد كتب له من بين قلائل أن يعاين عن كثب كيف تدور الجلسات السرية بين قادة الدول العربية.
رأى كيف يغضب بعضهم أو يشيح بوجهه عند سماع مداخلة قائد لا يشاركه قناعاته، وكيف تتململ الكراسي وتتكاثر طلبات نقاط النظام. مثل أي مؤتمر طلابي أو نقابي، مع فارق في أن المشاركين يملكون سلطة التوقيع واتخاذ القرار.
كانت مهمته فوق العادة، تجاوزت رداء الصحفي نحو المشاركة في تكييف أجواء صنع المواقف. ولسبب ما، قد يكون من بينه عامل المصادفة اختاره مولاي أحمد العلوي لعمل لم يكن يعرف خلفياته. ففي النهاية كان المساري يعمل في صحيفة معارضة، ولن يرتاب أحد في دوره، مع أن الصحافة لا تحتمل هذه التفرقة التعسفية في ميدان الحصول على المعلومة.
روى المساري الحكاية ذات زمن، وهو يردد أن ما يعرف بالسبق الصحفي الذي ينشده كل إعلامي لا يتحقق دائما وفق الرغبة، ولكنه يأتي ويصبح في متناول اليد، من دون أن يدري أحد. ومع مرور الوقت أدرك أن مولاي أحمد العلوي كان معنيا بمعرفة طريقة تفكير الملك حسين بن طلال، قبل أن يخلص مؤتمر قمة الرباط إلى اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
لقد كان العاهل الأردني مترددا في بداية الأمر، وكانت أحداث «أيلول الأسود» لا تزال ماثلة أمامه. وكان أكثر ما يخشاه أن تصبح بلاده الوطن البديل للشتات الفلسطيني في تلك المرحلة. وقبل أن يطرح المغرب مبادرته اعترته الرغبة في امتزاج رأيه بطريقة سلسة وغير مباشرة، فبعض المواقف تبرز بين ثنايا التصريحات الصحفية، وإن كان القائل بها والمتمعن فيها يدركان أنها لا تعكس دائما كل ما يخالج النفوس.
في مناسبة الأزمة بين الرباط ونواكشوط، تلقى الصحفي أحمد بنيس الذي سيكون من أعمدة «لوبنيون» قبل التحاقه بمؤسسة «ماروك سوار»، إشعارا بأن زيارته إلى موريتانيا سيكون لها طعم خاص. أقله تمكين الرأي العام من معرفة ما يدور في البلد المجاور من تطورات. قيل له إن لا ضرورة أن ترتدي الزيارة طابعا «رسميا» فالرباط وقتذاك لم تكن تعترف بنظام الرئيس الموريتاني المختار ولد دادة ولا بشرعية وجود بلاده.
غير أنه لاعتبارات سياسية لم يتمكن من القيام بتلك الزيارة، وتجاذبنا الحديث مرة في نشأة ومسار العلاقات بين الرباط ونواكشوط، فأفصح لي أنه كان في وسعه أن يكون أول صحفي مغربي ينفتح على بلاد شنقيط، خصوصا وأن اقتراح موعد الزيارة جاء قبل بضعة أسابيع من تعيين الدبلوماسي المغربي محمد قاسم الزهيري كأول سفير للمغرب في موريتانيا، وهو الذي عمل قبل ذلك مديرا لصحيفة «العلم» في ذروة تأزم العلاقات المغربية – الموريتانية.
كثيرة هي المبادرات الإعلامية التي كانت تسبق الأحداث السياسية أو تلاحقها في المهد، قبل انقشاع معطياتها، واضطر إعلامي مغربي بارز أن يغادر الرباط إلى جنيف عبر عواصم مختلفة لإجراء مقابلة مع مسؤول جزائري رفيع المستوى. حدث ذلك في وقت كان البلدان يجربان وصفة انفتاح بعضهما على الآخر، وكانت الصحافة أقرب القنوات التي تحمل الرسائل فوق الماء وليس تحته كما في رسالة نزار قباني التي حملها المطرب عبد الحليم حافظ، وصار يتنفس بها داخل الماء، من دون أن يغرق.
ألم يكن الصحفيون صانعي أحداث، حتى وإن جبلوا على القيام بمهمات ظاهرها إعلامي وباطنها ينبض بالإيحاءات السياسية؟ ولازلت أذكر كيف أن مقابلة كنت أجريتها في الجزائر مع زعيم جبهة الإنقاذ الإسلامية عباسي مدني، حركت بعض السواكن، بخاصة وأن الزعيم الإسلامي عبر وقتذاك عن موقف يميل إلى إيجاد حل لقضية الصحراء في إطار وحدة الدول الإسلامية. وكان النظام الجزائري على عهد السنوات الأولى لحكم الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، يبحث عن طوق نجاة يرمى إليه من الجزائر، وليس خارجها تحديدا.
ولا يمكن بهذا المعنى استثناء افتتاحيات مولاي أحمد العلوي في مؤسسة «ماروك سوار»، أقله أنها كانت ترسم أو تستشف معالم تفكير مدثر بكثير من القيود الرسمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى