الرئيسية

نبوءة جورج أورويل

سعيد الباز
هل العالم حقا بخير؟
هل دقّ جرسَ الإنذار جورج أورويل الكاتب والروائي والصحفي الإنجليزي ذات صيف من سنة 1949، وهو يكتب روايته المثيرة «1984»، متخيّلا عالما جديدا تسوده الأنظمة الشمولية أساسها استخدام التكنولوجيا لتحقيق غايتها الاستبدادية وجملة من الشعارات المتناقضة والممتلئة بالمفارقات غير المنطقية؟ جورج أورويل، الذي خبر الحرب الأهلية الإسبانية وتابع الحرب العالمية الثانية بمقالاته الشهيرة، انتهى به المطاف إلى محاولة وضع صورة متخيلة قريبة إلى الواقع لمصير هذا العالم. لقد كان نوعا ما متعجلا بعض الشيء حينما اقتنع بأنّ هذا المصير قريب جدا إلى حدّ أن أربعة عقود كانت كافية لتسقط البشرية ضحية براثن نظام مرعب تختفي فيه كل القيم الإنسانية والثقافية.
تحكي الرواية، من خلال بطلها وينستون سميث، عن مجتمع غريب يتحكّم فيه شخص مجهول وغامض هو الأخ الكبير الذي تعلو صوره كلّ مكان في الإدارات والساحات العامة، رغم انعدام أيّ وجود حقيقي أو مادي له. كلّ ما هو معروف عنه صورته العملاقة والمذيلة بهذا الشعار المخيف «الأخ الكبير يراقبك»، وحتّى شاشات التلفزيونات في البيوت وفي الأماكن العامّة تقوم بوظيفتين، وظيفة المشاهدة ووظيفة المراقبة. العواطف هي الأخرى ممنوعة، فثمة وزارة الحبّ الموكول إليها منع أيّ حالة حبّ ما، باعتباره يشكل خطرا على المجتمع والحزب الوحيد. الأنكى هو منع قراءة الكتب، فيضطر بطل الرواية للتسلل إلى زاوية في غرفته لا تستطيع شاشة التلفزة مراقبته أثناء القراءة والكتابة. تبلغ حدّة الاستبداد درجة كبيرة حيث تتكلف شرطة خاصة هي شرطة الفكر بمراقبة الناس في أسلوب تفكيرهم الذي ينبغي أن يكون متطابقا مع تعليمات الحزب والدولة ومعاقبة المخالفين باعتبارهم خونة ومعادين للدولة. اللغة ذاتها يتم إفراغها من محتواها وشحنها بنقيضها، فالحرية هي العبودية والحرب هي السلام والجهل هو القوة…
إنّ هذه الصورة القاتمة التي فجّرها ذات يوم جورج أورويل منذ سبعين سنة، تبدو إرهاصاتها عبر العالم قريبة جدا من واقع الحال، ذلك أن مجتمعاتنا تغرق يوما عن يوم في الضحالة الفكرية والثقافية، وحتى الطبقة السياسية نالت نصيبها من الخواء على مستوى الخطاب وبناء الأفكار والتحليل السياسي. مقابل ذلك، تهيمن وسائل التواصل وتكتسح العالم الثقافة الرقمية التي تملي شروطها وتفرض واقعا جديدا لا مناص من التعامل معه، وتتراجع في الوقت نفسه الثقافة تراجعا مهولا على مستوى المؤسسات والتداول العام فضلا عن حمولتها الرمزية.
الأخطر من ذلك، أنّ نظام العولمة الذي يؤطر هذه التحولات يساهم مساهمة كبيرة في تكريس ثقافة الاستهلاك كما تنبأ بذلك المفكر والفيلسوف الألماني هربرت ماركوز في كتابه الشهير «الإنسان ذو البعد الواحد» منذ سنة 1964، حيث اعتبر أنّ واجهة التقدم العلمي والتكنولوجي تتخفى من ورائه قوى تسعى إلى تنميط سلوك الأفراد المشبعين بروح الاستيلاب من قبل أجهزة الإعلام الجبارة ومن خلال سلطة الإشهار بخلق حاجيات وهمية، فتنعدم لديهم، بالتالي، الإرادة الحرة في الاختيار ولا يتبقى لديهم سوى هذا البعد الواحد، أي الاستهلاك.
من جهة أخرى، وفي السياق ذاته، يذهب الفيلسوف الفرنسي غي دوبور- Guy Debord إلى اعتبار أنّ العزلة أساس التقنية، والعملية التقنية تعزل بدورها، ومن السيارة إلى التلفزيون، فإنّ كلّ السلع هي أيضا للدعم الدائم لشروط عزلة الجماهير عن ذواتها وكينونتها الخاصة.
إنّ كلّ هذه المؤشرات الاستباقية في رواية «1984» لجورج أورويل أو غيره من المفكرين، ليس فقط مبعثها روح التشاؤم أو النظرة السوداوية، بل السؤال العميق الذي ما فتئت تطرحه العديد من المستجدات الحديثة على الإنسانية، سؤال من قبيل: هل العالم حقا بخير؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى