الرئيسية

نقاش هادئ في قضايا ساخنة

في سابقة الصراع حول خطة بكين لإدماج المرأة في التنمية، انشطر المجتمع المغربي إلى نصفين، بين مؤيد متحمس ورافض متشدد، فكان لابد من تدخل يعيد الأمور إلى نصابها. ما أثمر في نهاية المطاف، وبعد مشاورات مكثفة راعت منهجية الوفاق، مدونة الأسرة التي جاءت أكبر من مجرد قوانين تنظيمية وإجرائية. وبذلك كان المخرج لائقا ومقنعا ومسؤولا «لا يحل ما حرم الله، ولا يحرم ما هو قابل للاستيعاب، دون انزلاق أو خروج عن الثوابت».
ليس النقاش حول هذه المسألة وغيرها حكرا على مجتمعات دون سواها، فحيث تطرح إشكاليات قضايا المرأة والجنس واستخدام الدين وسلطة المجتمع، ينشد الجميع إلى الجدل، وقد يتجاوز حدوده إلى منزلقات حمراء، أو يبقى في النطاق ترسيم خطوط وفاقية لا يحيد عنها. ولئن كان الجدل مبررا وله مسوغاته أثناء طرح خطة إدماج المرأة، فإن المغاربة تمكنوا بعد سنوات من الحسم في أكثر الإشكاليات تعقيدا، خصوصا تلك المرتبطة بالهوية والثوابت ومدى ملاءمة القوانين المحلية لنظيراتها الدولية ذات القيم الكونية. ولأن الدستور واضح في ديباجته وبنوده ومنطوقه ومفهومه، فلا معنى للخروج عن النص ومقتضيات الوثيقة التي أقرها المغاربة بكل حرية.
لا يخلو النقاش الدائر حول مفاهيم الحرية الفردية وارتباطاتها بممارسات تثير ردود أفعال غاضبة، من طابع المزايدات أكان بالنسبة للذين يريدون ركوب موجة الحرية الفردية لتغيير أنماط وسلوكات المجتمع والتطبيع مع بعض الظواهر المشينة، في شكل أفلام وسهرات، على أساس أنه لا يوجد ما يفرض على الناس نوعا من الأذواق أو الأفكار التي تناقض ما يرغبون فيه. أو بالنسبة للذين يستخدمون البعد الأخلاقي ورقة انتخابية، طالما أن المغاربة يتأثرون إزاء مفهوم «البدع» المرتبطة بالضلالة، لكن من دون أن يعني ذلك أن المنطلقات جميعها مخطئة، أو غير قابلة لتقريب مجالات تناقضاتها. فما حدث في تجربة الموقف من خطة إدماج المرأة في التنمية كان أكثر إثارة للحساسيات، ومع ذلك تم تجاوز الإشكاليات، من خلال العودة إلى تغليب مرجعية الاحتكام.
المشكل في هذه القضية تحديدا لا يتعلق فقط بالعمل على ترجيح هذا الموقف أو ذاك، بل إن بعض التنظيرات التي ارتدت لبوسا «حداثيا» نحت في اتجاه أخطر، وبدل أن تضع أسس التغيير الهادئ للممارسات القابلة لاستيعاب المجتمع، حاولت هدم المعبد على رؤوس الجميع. ولم تعد المشكلة من وجهة نظرها ذات أبعاد أخلاقية بل ترتبط بالخيارات السياسية التي أجمع عليها المغاربة. فكانت بذلك أشبه برصاصات طائشة صدرت في الاتجاه المحظور، لأن من يمسك بالزناد لا تعنيه المسألة أخلاقيا، وإنما سياسيا. فحق على هؤلاء مضمون المثل المغربي حول اللقلاق الذي أراد تبويس ابنه فأعماه.
من غير التوقف طويلا عند هذه التفاصيل، فإن إثارة قضية الدفاع عن الثوابت عرفت ما يشبه انقلابا في المواقف والمواقع والأدوار. وكل الأطراف تلتقي عند فكرة أن خصومها ومنافسيها يدفعون بالبلاد نحو المجهول، الذين يعيبون على الحكومة وعمودها الفقري «العدالة والتنمية» تشددها واستئثارها بالرأي ونزعتها المناهضة لما يعتبرونه انفتاحا، يرون أنها تسير بالبلاد إلى أفق مظلم. والذين ينتقدون استخدام الحرية الفردية في محاولات لضرب قيم المجتمع وثوابته، ما انفكوا يؤكدون أن الأمر يتعلق باستهداف الثوابت، بما في ذلك تماسك المجتمع.
المشكل هذه المرة أن خلفيات سياسية تتحكم في المشهد، فثمة من يرى أن عجز الحكومة عن الوفاء بتعهدات والتزامات، جعلها تعزف على وتيرة النبرة الأخلاقية، وثمة من يرى أن منافسة «العدالة والتنمية» سياسيا، لا يمكن أن تتم عبر استغلال تشوهات المجتمع، لأن ذلك قد يعزز من صفوف الفئات الأكثر تحفظا، وهي التي تذهب عادة إلى صناديق الاقتراع بكثافة. إلا أنه من أجل عدم إضفاء بعد سياسي على هذه المواجهة المفتوحة نزعت بعض أطراف الائتلاف الحكومي إلى اتخاذ مسافة أبعد حيال الانجذاب إلى الطابع الأخلاقي للمعركة.
من الصعب التأكيد أن منافسي الحزب الإسلامي مقتنعون إلى حد كبير بجدوى الصراع الأخلاقي، فهم في النهاية لم يكونوا وراء إنتاج أفلام أو تقديم سهرات. وبالقدر ذاته من المستبعد أن تتطور المعركة في اتجاه اللارجعة، إلا أن إثارة قضية الثوابت لا يمكن تجاهل أبعادها. وسيكون من العسير على أي طرف أن يتدخل للحسم في هذا النزاع، فالأمر يختلف عن الحالة السابقة التي ارتبطت بقضية خطة المرأة والتنمية، ليس لأن تظاهرات حاشدة خرجت إلى الشارع، ولكن لأن الموضوع كان في طريقه إلى تقسيم المجتمع. ولا يمكن للنقاش الأخلاقي الدائر أن يذهب أبعد، لكنه في قضية الهوية وثوابت الدولة، يبدو كمن يتراجع إلى الوراء، طالما أن هناك مرجعيات ارتضاها المغاربة.
لا أحد بوسعه أن يفرض على أي من الفاعليات الحزبية تغيير نظرتها واستبدال مرجعياتها، ومهما كانت درجات الانفتاح والتحرر مطلوبة، فهي لا تسمح بتبني الدفاع عن سلوكات عارضة، فالهدف لا يكمن في فرض أنماط من التقيد بالأخلاقيات، وإنما تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي نحو الأفضل، بما يكرس الشعور بالكرامة والثقة في الاختيارات. فالتهجم على شاب بدعوى انحرافه ليس سلوكا مقبولا، عدا أنه لا يحل أي مشكلة، تماما كما أن الزج بفتاتين لمجرد ارتدائهما لباسا غير محتشم ليس حلا. بل إن طرح كل هذه الإشكاليات الأخلاقية لا يعوض الناس عن الحاجة إلى مبادرات عملية وملموسة تغير أوضاعهم الاجتماعية، ومن السذاجة والإفراط اختزال مشاكل البلاد في ما تحت الحزام. فذاك مظهر آخر للعجز عن تقديم إجابات وحلول شافية لمعضلات كبرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى