الرأي

هجر الثقافة وثقافة الهجرة

غالبا ما يكون هاجس الحكومات في الدول النامية محكوما بعاملين اثنين:
الأول، هو كيف يمكن تقليص العجز في ميزان التجاري، وتحقيق درجات أعلى في سلم معدل النمو مع العمل على عدم اللجوء إلى الدين الخارجي إلا للضرورة القصوى. بهذا المعنى يكون هاجس الحكومات هو هاجس اقتصادي محض لأن النمو الاقتصادي عامل حاسم في استقرار البلدان، والعكس طبعا يؤدي إلى احتقانات اجتماعية تؤرق بال الحكومات الساهرة على الشأن السياسي بالدول النامية، كما أنها تقدم صورة غير لائقة عن هذه البلدان في المحافل الدولية التي تتابع كل ما يجري في دول الجنوب.
أما الهاجس الثاني الذي يحظى بالأولوية أيضا على أجندة الحكومات العربية فهو الهاجس الأمني. وهذا أمر منطقي لأنه لا استقرار لأي بلد سواء كان غنيا أو فقيرا دون أن يستتب فيه الأمن. وقد اتخذ هذا المطلب أهمية قصوى في الوقت الراهن بسبب ما يعرفه العالم من توترات وحروب، خاصة في الشرق الأوسط. هذه الحروب وكما هو معروف وجدت فيها التنظيمات الإرهابية مرتعا خصبا لتنمو وتزدهر مخلفة الرعب ليس فقط في الأماكن التي تحارب فيها بل في كل أقطار العالم. الدول العربية والإسلامية وحتى الغربية لم تعد في مأمن من هجمات الانتحاريين خاصة أولئك المنتمون إلى التنظيم الارهابي المعروف اختصارا بداعش مما جعل الحرص على الأمن يتصدر كل الأولويات.
هذان العاملان على الخصوص، إضافة إلى أسباب أخرى تاريخية لا يسمح المقام بالتطرق إليها هنا، هو ما جعل أغلب حكومات الدول النامية لا تهتم بالشأن الثقافي في بلدانها، لأن الثقافة بالنسبة لغالبية هذه الحكومات هي مجرد ترف لم تنضج الظروف ربما لكي تهتم به كما ينبغي.
توفير المتطلبات الطبيعية الأولى كما عبرت عنها الحاجيات الإنسانية الأساسية لعالم النفس أبراهام ماسلو، من أكل ومشرب وأمن هو ما يشغل بال حكام الدول، مما يجعل الحق الثقافي حكرا على فئة ضئيلة جدا من المجتمع. العديد من الحكومات العربية هجرت الشأن الثقافي بشكل شبه تام ولم تحافظ في هذا المجال سوى على شكليات ثقافية لا تخدم الثقافة الهادفة ولا المثقفين الجادين.
الدليل على أن الحكومات قد ولت ظهرها للثقافة هو الحصة المالية التي تخصص لقطاع الثقافة عند إعداد ميزانية كل سنة. ففي المغرب مثلا تكون ميزانية وزارة الثقافة هي أفقر ميزانية على الإطلاق، بحيث إن ما يخصص لها من اعتماد قلما مكن هذه الوزارة من أن تضع برامج طموحة تخدم الشأن الثقافي وترقى به إلى المستوى المنشود.
تهميش الثقافة، وتعثر إصلاح التعليم أدى ويؤدي إلى هجرة شعبية عن كل ما له علاقة بالثقافة الجادة والهادفة. ولعل ضعف القراءة وتداول الكتاب، إضافة إلى تراجع الإعلام في هذا المجال أكبر دليل على ما نقول. الشباب الذي ترسخت لديه تمثلات سلبية عن دور الثقافة في بناء الأمم أصبح يولي ظهره لكل ما له علاقة بالثقافة الجادة ليرتمي في حضن ثقافة استهلاكية موسمية لا معنى لها وتجعله مستلبا وبدون هوية ثقافية واضحة.
المجتمع المغربي كالعديد من المجتمعات النامية الأخرى التي تفتقر إلى مشروع ثقافي مجتمعي، تبنى العديد من أبنائه ثقافة الهجرة نحو قيم الاستهلاك وكل ما له علاقة بالمحسوس المادي الممتع، وهي متع تحمل بين ثناياها حمى الاستهلاك السريع في سوق منتجاته تتغير بسرعة مذهلة وتدفع بالمستهلك للجري بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة ليوفر الشروط المادية التي تمكنه من الصمود لوقت طويل في سوق الاستهلاك الذي يدمر الجيب ويحقق التباهي بين أناس. هاجر المواطن أيضا بعيدا عن إعلام بلاده نحو قنوات فضائية يبحث فيها عما افتقده في قنوات وطنه. الهجرة نلمسها حتى في الحياة اليومية للعديد من المواطنين حتى المتعلمين منهم، فالبعض يدافع عن اللغة العربية أو نظيرتها الأمازيغية في حين أن ألسنتهم المعبرة عن حقيقة حال أذهانهم قد هاجرت نحو لغة موليير أو شكسبير. والأمثلة في هذا المجال كثيرة لا تحصى.
يبدو أنه لا سبيل للأمم العربية والإسلامية عموما سوى الاقتناع بأن الشأن الثقافي لا يقل أهمية عن الشأن الاقتصادي والأمني. وإذا لم نحقق أمننا الثقافي فحتما لن نحقق أي أمن مهما كان نوعه. بل إن ما سيترتب عن إهمال هذا المجال هو الدفع بالآلاف من أبناء شعوب دول الجنوب إلى الهجرة نحو ثقافة الموت التي يحمل لواءها حاليا تنظيم داعش الإرهابي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى