خاص

هكذا يعمل أعوان السلطة وهذا عالمهم

«عين السلطة التي لا تنام. تظنون أنهم يحصون أنفاسكم لكنهم في الواقع يقومون بأدوار ومهام لا تنتهي. حياتهم هي جزء من حياة المواطنين، والنصابون الذي ينتحلون صفاتهم استطاعوا قضاء مآربهم الشخصية في الوقت الذي يبقى فيه عون السلطة الحقيقي تحت مظلة السلطة ليسهر على قضاء أغراض المواطنين وحمايتهم».

قصص مثيرة لمنتحلي صفة أعوان السلطة
هم عين السلطة التي لا تنام. مؤخرا يشهد قطاع أعوان السلطة الكثير من التحولات، خصوصا بعد الفترة الأخيرة التي سبقت الانتخابات الجماعية الأخيرة، حيث كان الحديث عن الشروع في إصلاحات كبيرة تهم مجال أعوان السلطة وإنعاش وضعيتهم الاجتماعية.
المثير أن عالم المقدمين وأعوان السلطة يبقى قلعة حصينة جعلتها الدولة محاطة بهيبة كبيرة انتقلت إلى جميع الذين يشتغلون في القطاع.
هذه الهيبة كما سنرى في هذا الملف، سيستغلها البعض لكي تصبح هالة بشكل معاكس للغرض الذي أرادت الدولة تكريسها من أجله. وهكذا سيصبح منتحلو الصفات يعملون بأريحية أكبر كأعوان سلطة ما داموا متأكدين ألا أحد سيسألهم عما يثبت هويتهم.
وضعية أعوان السلطة اليوم تطرح الكثير من التساؤلات خصوصا وأن السور العالي بين المواطنين وأعوان السلطة لا يزال يحجب الكثير من التفاصيل التي تحيط عمل أعوان السلطة بكل هذه السرية.
تجده جالسا في المقهى، يطالع الجرائد، وتجده ربما في حديث عابر مع حارس عمارة لاستجوابه بشأن ساكن جديد قصد منحه شهادة السكنى إن احتاجها في يوم من الأيام. قد تعرف أن المقدم سأل عنك، وقد لا تعرف أبدا، لكن تأكد أن عينه مفتوحة على الدوام، متتبعا خطواتك وسكناتك أيضا.
بعض أعوان السلطة، خصوصا في الفترة التي كانت فيها وزارة الداخلية قلعة حصينة لإدريس البصري الذي صنعها على مقاسه وصنع بذلك أعوان سلطة من نوع خاص، كانوا وحدهم يمثلون القانون في أحياء المدن وفي القرى وفي كل تجمع سكاني.
من جملة ما جمعناه حول أسرار مهنة المقدمين، أن بعضهم كانوا يحصون أنفاس الناس مستفيدين من الوضعية السياسية في فترات متفرقة خصوصا خلال سنوات السبعينات والثمانينات، بينما كان آخرون يجمعون معلومات لا فائدة منها، لكن الأمر كان يعكس صورة السلطة في فهم المواطنين.
اليوم، يعتبر المقدم ممثل السلطة في أقرب الصور التي تجمعها بالمواطن المغربي، فالمقدم خصوصا في الأحياء والمدن التي بها كثافة سكانية صغيرة، يعرف كل شيء تقريبا عن الجميع، ولا يحتاج إلى بذل مجهود كبير لمعرفة أدق التفاصيل عن الأشخاص، بعكس المدن الكبيرة، خصوصا داخل الأحياء العشوائية، حيث يحتاج المقدم إلى مجهود مضاعف لتجميع المعلومات، والتحريات اللازمة قبل منح الشواهد الإدارية.
تبقى وظيفة أعوان السلطة مصدرا للتوقير الذي تمتعوا به ويتمتعون به داخل بعض الأوساط الاجتماعية، خصوصا في الفترات التي كانت فيها الإدارة المغربية بعيدة تماما عن المواطن، قبل أن يبدأ وعي الإدارة بالتكون لدى أجيال أخرى لم تعد ترى في «المقدم» غولا يجب الابتعاد منه قدر الإمكان، بقدر ما ترى فيه اليوم رجل سلطة يقدم خدمات مهمة للمواطنين ويسهل عليهم الإجراءات الإدارية ويتكلف بمدهم بالوثائق الضرورية التي يجب استخلاصها قبل بدء مشوار الحصول على الأوراق الرسمية.
حتى جواز السفر كان يتم الحصول عليه برحمة المقدم، الذي كان بمقدروه أن يمنع المواطن من الحصول عليه، في الفترة التي كانت فيها الهجرة نحو أوروبا تشهد إقبالا كبيرا. إذ كان المقدم بفضل علاقاته الواسعة مع موظفي مكتب الجوازات في العمالات، يعلم بشكل مبكر بوصول جواز السفر، ويتكلف في مرات كثيرة بتوصيله إلى صاحبه. بعض المقدمين الذين شهد لهم بالنزاهة والاستقامة وأثروا في حياة أجيال بأكملها، كانوا يتولون مهمة التوصيل بدون مقابل، لكن بعض أعوان السلطة الذين نسجت حولهم الحكايات وربما الأساطير أيضا، كانوا يشترطون على المواطنين تقديم مبالغ مالية لتمكينهم من وثائهم الإدارية وجوازات سفرهم، ويخبرونهم أنها لم تصل بعد في حين تأخر دفعهم للمال، وهكذا كان أعوان السلطة، سلطة مستقلة لهم إدارتهم الخاصة ومساطرهم الخاصة وقوانينهم التي يجبرون الجميع على الخضوع لها.
في المقابل هناك نوع آخر، يمكن أن يكون شخصا بسيطا، يملك وجها بشوشا وذقنا حليقا وثقة كبيرة بالنفس، حيث يبادر إلى تحية البوليس ورجال الأمن، وكأنه رئيسهم، وليس مجرد «شاوش» بسيط لا تتعدى مهمته تحضير القهوة وحمل الأوراق لتوقيعها. كانت لديه دراجة هوائية متهالكة يقوم بإخفائها كلما اقترب من مبنى العمالة، ليقدم نفسه بعد انتهاء الدوام، كواحد من أكثر المسؤولين نفوذا وتأثيرا، ويعد الراغبين في تسريع إجراءاتهم الإدارية بـ«الخير».
هناك قصص كثيرة لأذكياء، استغلوا ذكاءهم الحاد، وتقاسيم وجههم وثقتهم الكبيرة بأنفسهم، من أجل استبدال واقعهم الحقيقي، بواقع آخر برّاق، يفعل فعل السحر في نفوس الذين احترفوا التزلف والتقرب من المسؤولين الحقيقيين. وهؤلاء ليسوا أعوان سلطة وليسوا موظفين ولا مسؤولين، وإنما نصابون احترفوا التمثيل، واستغلوا المكانة الاعتبارية التي يتمتع بها رجل السلطة لدى الناس، وقاموا بعمليات نصب كبيرة. فأحدهم كان مواطنا عاديا بل وبدون عمل، يعيش أياما رتيبة في مسقط رأس وزير الداخلية إدريس البصري، وبفضل هذه النعمة فقط (نعمة تقاسم مكان الازدياد مع وزير الداخلية) كان بمقدوره أن ينصب على مسؤولين كبار في الدولة أواخر التسعينات.
كان عاطلا عن العمل في البداية. كغيره من أبناء المنطقة، دائما ما يفتخر بوصول إدريس البصري إلى أرقى المناصب العليا في البلاد، ويباهي الناس أنه يعرف الوزير شخصيا منذ سنوات الشباب البعيدة.
بالنسبة له، فإن الوصول إلى إدريس البصري لم يكن يتطلب الكثير من الجهد، واستغل أول فرصة ليطلب منه تدبر أمر عمل له. ولأنه كان أميا تماما فإن إدريس فضّل أن يشغله لديه، حتى يعمل سائقا لسيارة الأسرة، ويقضي حاجيات ومستلزمات المطبخ وغيرها من الأغراض الأسرية.
هذه المهمة، لم تكن لترضي طموحه، خصوصا وأنه كان يشاهد النافذين وكبار الشخصيات بالبلاد يتقاطرون كل يوم على منزل إدريس البصري، وكانت لديه رغبة عارمة في نسج العلاقات والجلوس بدوره مع أصحاب الأوداج المنتفخة وربطات العنق البراقة.
هؤلاء بدورهم، تعرضوا بسرعة للخديعة جراء تصرفاته مع إدريس البصري والتي تتزامن ووجودهم هناك، وظنوا أنه مقرب جدا من شخص الوزير الذي شدوا إليه الرحال فقط للتقرب منه. هذا الأمر، رواه لنا، شخص عاش تلك المرحلة بـ«تناقضاتها المضحكة». يقول إن ادريس البصري، بحكم ثقته فيه، أمره في مرات كثيرة أن يوصل بعض الإرساليات إلى جهات معينة، أو شخصيات كانت تربطه بها علاقات متينة. لكنه بدل أن يقوم بالدور المنوط به ويقفل راجعا إلى عمله الأصلي لقضاء شؤون البيت، كان يحرص على أن يبدو بمظهر الشخص المهم، الواقف في ظل أقوى رجل سلطة في المغرب، وبدل أن يكتفي بالقيام بالمهمة ويقفل عائدا، كان يحرص على أن يتحدث بلهجة «الآمر» رجل السلطة الذي لا يشق له غبار. الأمر الذي جعل الكثيرين يرضخون لمطالبه التي تكون في مرات كثيرة مبالغا فيها، إذ كان يزيد على ما يطلبه البصري.
من جديد، تعكس هذه القصة حالة قطاع أعوان السلطة، وأغواره التي كان سهلا على البعض اختراقها والاستفادة من وقعها في صدور المواطنين، لقضاء مصالح شخصية باسم السلطة.
بالعودة إلى أعوان السلطة الحقيقيين، أولئك الذين يسهرون على تقديم خدمات إدارية للمواطنين وينظمون علاقة الإدارة المغربية بالمواطن، فإن شخصية «المقدم» لا تزال مثيرة بالنسبة للكثيرين، خصوصا إذا علمنا أن عمله يبدأ عندما يستيقظ الناس من نومهم، ولا ينتهي حتى بعد نومهم، لأن طبيعة مهامه تقتضي أن يعمل خارج الساعات الإدارية وداخلها، وأن يكون دائما رهن الإشارة ليقدم أي خدمة تكون مفيدة في كثير من الحالات التي تحتاج فيها السلطات إلى معلومات دقيقة عن مشتبه في ضلوعهم في جرائم أو أعمال تمس أمن المواطنين وسير الحياة.

لهذا السبب يلقبونهم بعين السلطة التي لا تنام
تروج الكثير من الحكايات عن أعوان السلطة، وغرائب المقدمين وحتى الباشاوات، لكن أغلب ما روي على لسان العارفين بالإدارة العمومية وتاريخها، خصوصا أيام الملك الراحل الحسن الثاني، يعكس مدى تغلغل «المقدمين» في قصص الناس، وكيف أنهم كانوا يصنعون مجد وزارة الداخلية في ذلك الوقت، حيث أن الصورة التي تكونت عنها لدى المغاربة وقتها، لا تزال سارية المفعول إلى اليوم.
يجب أن يعرفوا الساكنين والخارجين والداخلين والزائرين أيضا. بعض المقدمين يحشرون أنفسهم في أكثر الخصوصيات حميمية، ويروي أحد المصادر الذين اشتغلوا في دهاليز الإدارة العمومية والمقاطعات والعمالات لفترة طويلة، كيف أن أحد المقدمين الذين كانوا مكلفين من طرف «الباشا» شخصيا بمراقبة أحد المعلمين في سنوات السبعينات، بحكم أن الشكوك كانت تحوم حوله لاشتباه في انتمائه السياسي في مدينة صفرو الصغيرة، كان (المقدم) يطبق التعليمات بكثير من الحماس، وبدل أن يكتفي بالمراقبة ليعرف اهتمامات الموظف والأماكن التي يتردد عليها وما يدور بينه وبين تلاميذه في القسم، ذهب المقدم بعيدا إلى مراقبة غسيل الموظف في سطح البناية التي كان يكتري شقة داخلها، ومراقبة زوجته، إلى درجة أنه كان يضبط مواعيد العائلة كلها، وتفاصيل حياتهم اليومية.
عندما جاء وقت تقديم تقرير عن مهمته، كانت دهشة المسؤولين كبيرة لهول المعلومات التي جمعها هذا المقدم، والتي كانت كلها بلا أهمية، ولا تخدم المهمة التي كلف بها في الأصل، إذ عندما طرح عليه سؤال بخصوص الاهتمامات السياسية لرجل التعليم الذي كان موضوع المراقبة أجاب بأنه لا يعلم أي شيء بخصوصها، لكنها يعلم مواعيد استحمامه أسبوعيا، ومقدار الطحين في بيته، ومتى كانت آخر مرة عبأ فيها قنينة الغاز، وحتى مواعيد توجهه عند الحلاق.
بقدر ما كانت الصورة ساخرة، بقدر ما تعكس مدى قوة عون السلطة في جمع أكبر قدر من المعلومات حول المواطنين، بشكل يجعله يستحق لقب عين السلطة التي لا تنام.

هكذا يعيش أعوان السلطة حياتهم
لم يرد في البداية أن يتحدث عن مهنته. إذ أن علاقة المقدّم، كما يقول، بالجرائد، لا تتجاوز المقاهي. ولا يحب أغلب أعوان السلطة والتابعون لوزارة الداخلية أن يتحدثوا أبدا مع الصحافة أو عنها. مهنة المقدم تبدأ عندما يستيقظ الناس، ولا تنتهي حتى بعد نومهم. يجب أن تعرف كل صغيرة وكل كبيرة عن سكان الحي وأن تكون على دراية بكل ما من شأنه أن يهم السلطة.

أطرف التقارير التي رفعها أعوان السلطة إلى الجهات «النافذة»
تعود تفاصيل هذه الواقعة إلى سنة 1973 عندما كانت السلطات تشهد حالة تأهب كبير في أقاليم الجنوب الشرقي، لانتشار إخباريات مهمة تؤكد وجود بعض العناصر المسلحة القادمين من الجزائر، والذين يريدون القيام بأعمال مسلحة في المغرب.
بادرت السلطات إلى نشر رجالها، في كل مكان حتى يكونوا على تأهب كبير، لنقل الأخبار والتحركات المشبوهة التي كان متوقعا أن تظهر في أي وقت، خصوصا وأن سكان المنطقة كان من بينهم من يتعاطف مع المسلحين، لأن أغلبهم كانوا من المقاومين الذين فروا إلى الجزائر خوفا من الأحكام التي صدرت بحقهم بداية السبعينات، والتي تتعلق بعواقب رفضهم تسليم سلاحهم إلى الدولة حتى بعد مرور سنوات على حصول المغرب على الاستقلال وانتهاء دور المقاومة.
أعوان السلطة كانوا متأهبين، ولا تنكر الإدارة المغربية أن المقدمين والشيوخ وصولا إلى الباشاوات كانوا قد ساهموا بدور كبير في احتواء الأوضاع السياسية ومواجهة التهديدات التي كانت موجهة ضد المغرب خصوصا في فترة سنوات التوتر.
من أطرف ما روي عن تلك الفترة، قصة ننقلها على لسان أحد المشرفين على تلقي المراسلات في قلب مقر وزارة الداخلية بالرباط، أيام كان الطبيب بنهيمة على رأس الوزارة.
يقول: «كان أعوان السلطة يشكلون العصب في هذه العملية كلها. لا يمكن للتقارير أن تتكون من فراغ. كانت وزارة الداخلية وقتها قد راسلت العمال ليباشروا إعطاء التعليمات لأعوان السلطة حتى يبدؤوا في استقاء المعلومات الأولية من جميع القرى والمداشر القريبة من منطقة الخطر. تم إعطاء تعليمات واضحة للعمال حتى يوجهوا المقدمين والشيوخ في هذا الباب، ويخبرونهم بطبيعة الأسئلة التي سيلقونها على الناس. ومن جملة ما قام به هؤلاء المقدمون أن ورطوا بعض الناس في عمليات لا علاقة لهم بها، وقدموا وشايات بأناس أبرياء لا علاقة لهم بالمقاومة، وتبين في ما بعد أن أمر التهمة استغل بشكل معاكس لتصفية خصومهم في المحاكم، إذ تبين أن هؤلاء الناس كانوا موضوع نزاعات حول ملكيات الأراضي الفلاحية، وهكذا استغل بعض الفلاحين علاقتهم بالمقدمين، وطلبوا منهم أن يقولوا للعمالة إن خصومهم متورطون في علاقات مع المسلحين. عندما علمت وزارة الداخلية بالأمر، تم إخلاء سبيل الذين تم إعطاء الأمر للمصالح الأمنية باعتقالهم واستجوابهم، لأن الأمر كان في النهاية مكيدة. لكن لم تتم معاقبة المقدمين الذين تورطوا في هذه الوشايات، لكن تم تنبيههم إلى ضرورة فتح أعينهم جيدا في المرات المقبلة».
وهكذا انتهت حكاية كادت تزج في السجن بعشرات الفلاحين المنحدرين من الجنوب الشرقي.
مما روي أيضا في تلك الفترة أن بعض المقدمين أخذهم الحماس الزائد فشرعوا في تخيل معطيات وهمية، لأشياء غير واقعية، ظنا منهم أن هذه المعلومات من شأنها أن تضمن ترقيتهم، لكنها بالعكس هوت بهم إلى القاع، ربما غاب عن بالهم أن كل التقارير التي ترفع إلى الداخلية يتم التأكد منها من طرف الأجهزة الأمنية المختصة، ولا يتم اعتمادها رسميا، وإنما يتم الاستئناس بها للتأكد من المعلومات وتصحيحها فقط.

أطرف مقالب أعوان السلطة ضد اليساريين في سنوات الرصاص
لا بد أن كل الذين درسوا في الجامعات المغربية خلال سنوات الرصاص، خصوصا منهم الذين سبق اعتقالهم على خلفيات انتمائهم لليسار أو تعاطفهم مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، يحتفظون بذكريات مع أعوان السلطة، مقدّمين وغيرهم. المنحدرون من القرى خصوصا، كانوا يعيشون على إيقاع حرب خفية مع أعوان السلطة الذين يكونون مكلفين بمهمة مراقبتهم مراقبة لصيقة، ومحاولة اختراق عالمهم حتى في العطل التي يزورون فيها عائلاتهم، ليرفعوا تقاريرهم بهذا الشأن. وكانت كل تلك التقارير تُجمع في مقر وزارة الداخلية بالرباط، والمئات منها، إن لم نقل الآلاف لم تكن تصلح لأي شيء.
لنأخذ على سبيل المثال قصة طالب جامعي كانت إمكانات عائلته لا تساعده على مواصلة دراسته الجامعية في جامعة ظهر المهراز بفاس، فكان كلما تأخر صرف المنح، يشد الرجال إلى مسقط رأسه في قرية صغيرة نواحي فاس، ويتفرغ فيها للإعداد للامتحانات. كان في إحدى المرات قد أهمل نفسه تماما، وعكف في غرفته للتحضير للامتحانات. وكان المقدم يتردد دائما على محيط منزل العائلة ليعرف اهتمامات الشاب الذي يتابع دراسته في الجامعة وما إن كانت له ميولات يسارية غير مرغوبة، بالرغم من أن المقدم لم يكن يعرف معنى اليسار حسب ما رواه صاحب القصة. في إحدى جولاته المعتادة، انتبه المقدم إلى أن الشاب أصبحت له لحية مهملة بعد أن كان يحلقها باستمرار، ولاحظ أيضا أن شعره أصبح عشوائيا، فسارع إلى إخبار السلطات بأن الطالب المعني قد أصبح شيوعيا، وأنه يتعين إخبار عائلته بالأمر حتى تقنعه بالعدول عن ذلك. ولم تفلح محاولات الشاب في إقناع والده بأن الأمر مجرد سوء فهم، فوالده الذي كان فلاحا هدده بقطع العلاقة معه إذا استمر في معاشرة الطلبة الذين لا يصومون رمضان، لأن المقدم أخبره بأن الطلبة اليساريين يحملون أفكارا مضادة للدين والتقاليد.
مثل هذه الحكايات تكاد تتشابه خصوصا في المناطق النائية التي كانت فيها السلطات تراقب بحذر شديد، الطلبة الجامعيين خوفا من نقل التوترات التي كانت تعيشها الجامعات بالإضافة إلى الحس النضالي، إلى المنازل.

من صينية القهوة إلى عقد الصفقات
بعد ذلك اليوم، تقاطر عليه مواطنون آخرون، بعد أن سمعوا من الدائرة الضيقة للتاجر الأول، بأنه يعرف موظفا نافذا في العمالة. لم يعد مسموحا له أن يدخل بدراجته الهوائية إلى قلب حديقة العمالة، لذلك فكر أن يتركها في مكان قريب، لدى أحد أصحاب محلات إصلاح الدراجات، ويقطع المسافة المتبقية مشيا لدخول العمالة من الباب الكبير، وهناك كان يتصيد زبائنه المحتملين.
تولدت لديه مع مرور الشهور ثقة كبيرة بالنفس، وهكذا أصبح يطلب من الذين يأتون إليه طلبا لخدماته، أن يتلقوه في مكان بعيد، ويضرب لهم موعدا في المقاهي البعيدة عن الأنظار. في زمن قياسي استطاع أن يتوسط للكثيرين مقابل مبالغ مالية مهمة، ويغير مقر سكناه، ليستقر في مكان قريب من العمالة، ويزيد من اهتمامه بهندامه.

نهاية الطمع.. الإفلاس
هذه الموهبة التي اكتشفها في نفسه بالصدفة، تطورت لتصبح مصدرا للاغتناء وربط العلاقات النافذة. مستواه التعليمي المتواضع، ساعده، بالإضافة إلى كثير من الذكاء، على توطيد علاقات مهمة مع عائلات غنية، لكن الأمور أخذت منحى آخر عندما قرر أن يصاهر عائلة ثرية بالدار البيضاء، بعدما اقترح على رب الأسرة التوسط له من أجل إتمام الإجراءات الإدارية.
الأسرة بطبيعة الحال لا تعلم أن صهرها هو «الشاوش»، وجاء أحد أصهاره مرة لانتظاره أمام العمالة دون موعد مسبق، فإذا به يلمحه يصعد الدرج مسرعا إلى داخل العمالة، وبينما كان يناديه من سيارته الفارهة مقدما لقب «سي» على اسمه الشخصي، انتبه أحد الموظفين للأمر، واستفسر الرجل عن سر مناداته على «الشاوش» بكل ذلك الأدب، خصوصا وأنه يركب سيارة فارهة ويبدو عليه أنه من علية القوم. فكان أن سرد الرجل على الموظف قصته مع «المسؤول الكبير» داخل العمالة، ليخبره الأخير أن عائلته قد تتعرض لنصب على يد هذا «الشاوش»، وأقنعه بصعوبة أن يرافقه إلى داخل العمالة ليرى بعينه كيف أن صهره ليس إلا «الشاوش» الذي يقف في الرواق الخاص بالموظفين الكبار ورؤساء المصالح داخل العمالة.
هكذا انتهت قصة طريفة، لواحد من الشخصيات التي أثثت أجواء إحدى عمالات الدار البيضاء، ووجدت مساحة شاسعة للعب، في ظل الممطالة التي كان يقوم بها الموظفون وكبار المسؤولين في معالجة ملفات المواطنين قبل عقود قليلة. وتقول نفس المصادر إنه كان ينصب بين الفينة والأخرى على أناس آخرين خصوصا في مسألة رخص البناء، أو الإصلاحات داخل المنازل، حيث كان الأمر يحتاج إلى استخراج رخصة من السلطات المعنية، رغم أن أغلب المواطنين كانوا يقومون بهذه الإصلاحات بدون الحصول على ترخيص مسبق، إلا أن صاحبنا كان يتجول بين الأحياء التابعة ترابيا لنفوذ العمالة التي يعمل «شاوشا» بها، ويخبر سكان المنزل المعني أنه «مقدم» وأنه جاء للوقوف على الخروقات القانونية التي يقومون بها لأنهم لم يخبروا السلطات بالأمر حتى تمنحهم ترخيصا، ويخبرهم أيضا أنه يتعين عليهم أداء ضرائب للدولة حتى يتسنى لهم مواصلة العمل. إلا أنه بدخوله عالم أعوان السلطة والمقدمين، كاد ينكشف ومن المحاولات الأولى، عندما وصل إلى أسماع المقدم الحقيقي أن هناك من ينتحل صفته ويخبر الناس أنه «مقدم» جديد مكلف بمراقبة عمليات البناء والإصلاحات داخل المنازل، بأحد الأحياء الشعبية التي انتشر بها البناء العشوائي. ليلوذ بالفرار على متن دراجته الهوائية فور سماعه صراخ المقدم الحقيقي قادما من بعيد يسأله عن هويته، بينما كان بصدد الحصول على مبلغ مالي من إحدى العائلات التي كادت تبتلع الطعم. ومن يومها لم يعد إلى الظهور من جديد بصفة المقدم، ربما يكون قد أدرك أن الصفة الوحيدة التي يستحيل انتحالها لفترة طويلة هي صفة عون السلطة، لأن أول من سيكتشفها هو عون السلطة نفسه.

عندما ينتحل النصابون صفة أعوان سلطة ويصبحون مسؤولين كبارا في الدولة
القصة يرويها لنا عامل سابق. كان في الوقت الذي عرفت فيه العمالة التي كان موظفا فيها تفاصيل هذه القصة، موظفا بسيطا قبل أن يترقى ويصبح «عاملا» فيما بعد.
بطل القصة كان في الأصل «شاوش» في باب العمالة، يدخل القهوة إلى مكاتب كبار مسؤولي إحدى عمالات الدار البيضاء، ما بين سنوات 1975 و1980. كان يعرفه تقريبا أغلب الموظفين، ولا تخطئ العين اهتمامه الكبير بمظهره. شعره مصفف بعناية، وذقنه حليق دائما. كان يعتبر صغير السن مقارنة مع أعمار بقية الذين يزاولون نفس مهنته. انقطع عن التعليم مبكرا، لكنه كان «يفك» الخط، ويبذل مجهودا لنطق بعض الكلمات الفرنسية.
منذ الشهور الأولى التي قضاها في الرواق المفضي إلى مكاتب مسؤولي العمالة، كان يلاحظ كيف أن العشرات من المواطنين يتقاطرون يوميا على المكان، ويدخلون في نقاشات مع الموظفين من أجل الظفر بمقابلة المسؤولين. مواطنون ينزلون من سيارات فارهة، ويحملون ملفات مشاريع يريدون إقامتها في الدار البيضاء، ويسابقون الوقت لتسريع وتيرة الإجراءات الإدارية بالغة التعقيد.
في إحدى المرات، كان «الشاوش»، قد وضع صينية القهوة في المطبخ، وعاد ليقف في مكانه المعتاد، في انتظار أن يطلب منه أحد المسؤولين إعداد قهوة أخرى أو إمداده بالجرائد.
في اللحظة التي كان يهم فيها بالعودة إلى مكانه، أوقفه أحد المواطنين، ولم يكن غير أحد الأغنياء الجدد، والذي كان يسابق الوقت من أجل الفوز بترخيص لبدء تجارة رابحة في أحد المحلات وسط المدينة. كان يظن أنه أمام موظف مستعجل للالتحاق بمكتبه، ولم يظن أبدا أنه يتحدث إلى «شاوش» مهمته تحضير القهوة والسخرة لدى المسؤولين وكبار الموظفين بمصالح العمالة، حتى أن دراجته الهوائية كانت مركونة في مكان ظليل في الحديقة الخلفية للعمالة.
سر هذا الخلط راجع إلى كون «الشاوش» مهتما بهندامه إلى حد كبير، ومهووسا بالنظافة، إذ كان يشهد له الكثيرون أنه كان أكثر أناقة من بعض الموظفين الكسالى.
طلب منه التاجر المستعجل أن يسرع له وتيرة الإجراءات الإدارية، مقابل مبلغ مادي، ودس في جيبه أوراقا مالية، قبل أن يهمس في أذنه «غادي نتهلى فيك».
هذه الكلمة كان لها مفعول السحر في نفس الرجل البسيط، وتأبط الملف فورا، ليستغل الخلط الذي وقع، ويطرق باب مدير المصلحة، ويدخل ليضع الملف أمام مكتبه، ويخبره أن المدير أرسل معه هذا الملف ليبث فيه فورا. لم يستغرق الأمر سوى دقائق، ليمهر الوثائق بالطابع والتوقيعات والطوابع البريدية، ويعيده إلى «الشاوش» في زمن قياسي، ويخرج لينقل البشرى إلى «التاجر» الذي كان ينتظره في الرواق.
هكذا كانت بدايته، ليزاوج، بكثير من الذكاء، بين عمله الرسمي كشاوش، وعمله الآخر الذي يوهم فيه زبناءه بأنه موظف لا يحول بينه وبين المدير أحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى