الرأي

هل الثروة ينبوع السعادة؟

جاء في الحديث الصحيح أنه لو كان لابن آدم واديان من ذهب لأحب أن يكون له ثالث ولن يملأ فاهه إلا التراب ويتوب الله على من تاب.
يتحاسد الناس على الثروة وهي في معظمها من مصادر حرام، فهي إما من نفوذ أو بيع سلاح أو دعارة أو ترويج مخدرات أو احتيالات، أو في أقل الأحوال من ضربة حظ أو اجتماع حظ مع ذكاء ودأب وبخل لا نهاية له؛ فأول قاعدة في الثراء هي المثل الإنجليزي تدبر أمر السنت أما الدولار فهو يدبر أمره بنفسه. ولو كان نموذج الغنى هو المثال المحتذى، لكان قارون سيد الأنبياء وإمام المصلحين، «فخسفنا به وبداره الأرض». ويروى عن سيد الرحمة أنه اشتد يوما في صلاته ثم سلم وانصرف بسرعة، ليتعجب الصحابة فيسألون إن كان ثمة طاريء، فيقول: نعم كان بقية من تبر في بيتي فتصدقت به فارتاحت نفسي. ولكن مع كل هذا فالمال للمجتمع هو مثل الدم في البدن والويل من التوزيع الفاسد كما يحصل في انتفاخات الدم في الجسم فتنفجر فتقضي على صاحبها، فهذه فلسفة مهمة لفلسفة الحديث الذي ذكرناه.
ومع كتابة هذه الأسطر حصل ارتجاج مخيف في أوربا؛ ففي يوم 24 يونيو من عام 2016 لن ينسى وقع استفتاء الناس في بريطانيا على الانشقاق عن الاتحاد ومغادرة البيت الأوربي، ووضع الناس أيديهم على قلوبهم لما سيأتي من الأيام الحبالى بعزائم الأمور. وجاءت النتيجة مباشرة بانهيار الجنيه الإسترليني بما لم يفعله منذ 31 سنة، وصرخت اسكتلندا وهي قطعة من بريطانيا منذ الفتح النورماندي، أنه قد جاء اليوم الذي تغادر بريطانيا العظمى لتولد دولة اسكتلندا الحرة بتنورتها التقليدية وموسيقاها المعروفة بمزامير وأوكورديون، لتتحول بريطانيا من الإمبراطورية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس إلى بريطانيا الصغرى في جزيرة مقفرة محدودة الإمكانيات، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
وفي عام 1928 انهارت الأسواق المالية في وول ستريت في أمريكا، ليتبعها انهيار الأسواق المالية في كل الدورة المالية العالمية، كمن ينزف من شريان فيتعرض للصدمة فيهوي. سميت تلك الكارثة الكساد العالمي، ليتبعها المحللون في دراسة طبيعة القلب الاقتصادي الذي يخفق في قلب العالم، ومن قبل كتب (جواهر لال نهرو) في كتابه «من السجن إلى الرئاسة»، عن تكدس المال في مكان؛ فيخفق القلب الاقتصادي، وكان في لندن لينتقل إلى نيويورك، كما كتب (جاك أتالييه) الفرنسي في كتابه «آفاق المستقبل» ـ والرجل الفيلسوف كان مستشار الرئيس الفرنسي الراحل ميتران ـ تحدث بتفصيل عن انتقال هذا القلب من محطة لأخرى، فكان يوما في أمستردام، ومن قبل في استانبول، ولن يبقى بحال في لونغ آيلاند بمخزونها الخرافي من سبائك الذهب، ليكون عبر المحيط الهادي ربما في شنغهاي أو بيجين.
ونذكر مع انهيار الأسواق المالية العالمية في أكتوبر عام 1997، كيف انهارت معنويات الكثيرين، وتكرر هذا مع كارثة الرهن العقاري عام 2008، ومن قبل عام 1998، كما تنبأ رافي باترا الأمريكي ـ بأصول هندية ـ في كتابه «الكساد االعظيم»، عن دورة تشبه حمى الرعاش تضرب النظام الرأسمالي كل ستين عاما.. فكما جاءت هذه الحمى الاقتصادية عام 1928، فوجب أن تتكرر وفق قانونه الذي زعم اكتشافه عام 1988، وقد حصل لولا اختراع الصادات الحيوية الجديدة من عالم الاقتصاد، فتضافر الجميع مع أسد أمريكا فنجا الاقتصاد العالمي من كارثة مخيفة كانت ستكون أشد أثرا من الكساد العظيم عام 1928.
كل الناس تتفق على أن المال لا يجلب السعادة بشكل قاطع نهائي، وكل الناس تسعى إلى المال بنهم لا يعرف الارتواء، ولا يحترم الحدود، وكأنها جهنم تقول: هل من مزيد؟
واعتبر القرآن المال (قيمة متحركة) في طيف متكامل تتحول فيه هذه (الوسيلة) من (الخير والزينة والقوام) إلى (الفتنة والطغيان).
تأمل الآية: «وإنه لحب الخير لشديدـ التي جعل الله لكم قياما ـ زينة الحياة الدنيا ـ إنما أموالكم وأولادكم فتنة ـ ليطغى أن رآه استغنى».
ورأى فيلسوف فرنسي أن المال: خير خادم وشر سيد… واكتشف (كارل ماركس) في كتابه «رأس المال» مرض (فائض القيمة) في النظام الرأسمالي، مما حدا بالعمال الفقراء المنهكين في الأكواخ القذرة أن يرفعوا يومها كتابه «رأس المال THE CAPITAL»، إلى مستوى القداسة ليتحول إلى (إنجيل الشيوعية).
ورأى يسوع (المسيح) عليه السلام أن الأغنياء لن يدخلوا الجنة إلا بطريقة واحدة: عندما يمر (الجمل) في ثقب الأبرة، وهو مستحيل حسب قوانين الفيزياء؟!
وفي عام 1776 وضع (آدم سميث ADAM SMITH) كتابه «ثروة الأمم WEALTH OF NATIONS»، الذي رفعه إلى ذروة البشر الأعاظم المائة في تاريخ الجنس البشري، وضع يده فيها على الآلية الخفية والجدل المبطن لعمل السوق والتجارة فدشن (نقطة البداية لدراسة الاقتصاد السياسي الحديث).
ورأى عالم النفس (براين تريسي) أن أسس النجاح عند الإنسان تعتمد ستة عناصر الرابع فيها هو (الكفاية المالية). أما عالم النفس (هادفيلد) فيرى أن السعادة غير السرور واللذة، وحسب فلسفته فالسعادة هي تناسق التعبير عن الغرائز في موسيقى متناغمة HARMONY) واللذة هي ممارسة غريزة لا يشترط توافقها مع الذات، أما السرور فهو المسحة الوجدانية للانفعال البيولوجي في لذة تتوافق مع الذات.
ورأى (ميشيل أرجايل MICHAEL ARGYLE) في إحصائياته وأبحاثه التي اعتمدت (502) مرجعاً لـ 191 ممن فازوا باليانصيب بــ 161000 جنيه؛ فلم يلحظ تغيرا يذكر في مشاعر السعادة عندهم. في مشعر واضح إلى اللغز الغامض في تحصيل السعادة.
لابد إذاً من تفكيك الثروة والسعادة ورؤية المزيج منهما؟‍!
مع هبوط مؤشرات البورصات تهبط قلوب أعداد لا تحصى على قوس الكرة الأرضية، ولا يستبعد أن انتحر البعض على الشكل الذي أظهره فيلم «هابيل وقابيل»، كما مرت على أناس لم يشعروا بما حدث؛ فليس في جيبهم دولار ولا مارك، ولا باسمهم سندات، ولا يمتلكون أوراقاً مالية واستثمارات، فلا يملكون حتى يخسروا.. فطوبى للفقراء ؟!.
أظهر الفيلم الأمريكي «هابيل وقابيل- ABEL & CAEN « مصير رجلين ولدا بالوقت نفسه في بولندا وأمريكا؛ فأما الأول فذاق مرارة الفقر، وجاء مهاجراً إلى أمريكا يعمل (نادلاً) في مطعم، وأما الثاني فنشأ في بيت أمريكي أرستقراطي مرفه، لينجح الأول في أعماله التجارية من خلال صداقته مع مالك مجموعة فنادق محترمة؛ لتصبح ملكه بعد انتحار صاحبه في الانهيار المالي الكبير في أمريكا عام 1928، وأما الأرستقراطي الأمريكي فينتهي أيضاً محطماً بعد خسارات مالية في البنك الذي كان يتولى إدارته.
الانهيار المالي الكبير كان شيئاً خطيراً لم نعاصره، ولكن ذكرته كتب التاريخ والاقتصاد وكان مهولاً مروعاً؛ فخلال أيام قليلة تحول الأغنياء إلى فقراء لا يملكون شيئاً، عندما فقدت الأوراق المالية قوتها، مثل البطارية التي فُرِّغت من الشحن دفعة واحدة، وهذا ما جعل المفكر الجزائري (مالك بن نبي) يعتبر أن الورقة المالية تشبه (البطارية) شحنتها قيمة العمل الذي بذل فيها. ومن القصص العجيبة في انهيار الأسواق المالية يومها هو والد الرئيس الأمريكي جون كينيدي، حيث كان يمسح حذاءه والفقير ماسح الأحذية يضحك متندراً على المضاربين في سوق (وال ستريت) فقال: «أما أنا فلن أضع في جيبي سوى الذهب».
هزت هذه الكلمة الأب كنيدي ليحول كل ما يملك الى ذهب؛ ليصبح ثرياً مرموقاً بعد العاصفة المالية؛ فلم يصمد يومها إلا الذهب ومالكه؟!
أما المذبحة المالية التي فجعت هونج كونغ عام 1997، فقد امتد مطرها إلى (وال ستريت) تلمع في ثلاثة ألوان حمراء منذرة بتحولات جديدة، غير ما اعتادها اقتصاد الثلاثينات من هذا القرن مع الانهيار المالي الفظيع عام 1928: عالمية الاقتصاد والإنسان، وأثر المال في الحياة، وعدم حصانة النظام الرأسمالي ضد الصدمات الاقتصادية، في جوٍ من الجشع، يقوده سمك قرش عالمي من السماسرة ومضاربي البورصات، في نفخ بالونات الأوراق المالية، وضخ الأسعار الوهمي إلى ذرى جنونية لا تقوى فيه على التحليق، فتنفجر من طول احتقان؛ فيصدق عليها مصير الطير: «ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع»، كما اعترف بذلك الخبير الأمريكي (جرين سبان GREENSPAN). ولم يكن جنون الذهب عام 1980، وطيران الدولار في بداية عام 1985 إلى 3,6 ماركات (أيام ريجان) لينزل عام 1995 إلى 1,35 من المارك (ما قبل الاتحاد الأوربي وولادة اليورو)، إلا قصة مكررة فيها عبرة كبيرة، عن سرعة المتغيرات في عالمنا الذي نعيش فيه، وأن من يرفع ويضع، ليس مقاييس منطقية وتغيرات جوهرية في الأسواق؛ بل خلفية نفسية لجنونٍ من نوعٍ خاص يمارسه البشر، «وكان الإنسان أكثر شيء جدلا».
لعنة ميداس
تذكر الأسطورة اليونانية أن آلهة الأولمب (بزعمهم) اجتمعت لتحقق في يوم متفق عليه أمنية الرجل (ميداس) لبره بالآلهة: تمنَّ ما تشاء وسيحقق لك فوراً؟!
كان ميداس يحب الذهب إلى درجة العبادة!! فهتف بدون ذرة تردد: أن يتحول كل ما أضع يدي عليه إلى إبريز خالص!
لم يعش (ميداس) أكثر من ثلاثة أيام، لأن الطعام والماء تحول إلى ذهب قاتل، فحيثما لامست يده الأشياء تحولت إلى ذهب لامع رنان، فقد برت الآلهة بوعدها؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى