الرأي

هل انتهت «الهدنة» بين أردوغان و«داعش»؟

إذا صحت تصريحات أحمد داوود أوغلو، رئيس وزراء تركيا، بأن منفذ العملية الانتحارية التي استهدفت تجمعا للسياح الألمان والأوروببين في حي سلطان أحمد التاريخي، وأدت إلى مقتل عشرة منهم، مواطن سوري ينتمي إلى «الدولة الاسلامية»، وأقدم عليها بتوجيه من قيادتها، ونحن لا نشك مطلقا في صحتها، فإن هذا يعني عدة أمور يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أولا: أن الهدنة غير المكتوبة، أو المتفق عليها، بين السلطات التركية وتنظيم «الدولة الاسلامية» قد انهارت فعلا، بسبب عمليات الدهم والاعتقالات، بل والهجمات، التي تشنها قوات الأمن التركية بشكل مكثف ضد الخلايا النائمة والصاحية لهذه «الدولة» طوال الأشهر الماضية بضغط أمريكي، فهذه «الدولة» تتوقع من تركيا أن تقف في خندقها، أو الوقوف على الحياد في أفضل الأحوال، وهذا ما سمعته من المقربين منها شخصيا.
ثانيا: أن الموسم السياحي التركي الذي يدر على الخزينة التركية حوالي 36 مليار دولار سنويا مهدد بمواجهة ضربة قوية، وشبه قاضية، تأتي بعد أسابيع من ضربة أولى، تمثلت في قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمنع السياح الروس من زيارة تركيا (عددهم خمسة ملايين سائح) ومنتجعاتها في إطار العقوبات الاقتصادية الروسية التي جرى فرضها كرد انتقامي على إسقاط طائرة سوخوي قرب الحدود السورية، انتهكت الأجواء التركية لثوان معدودة.
ثالثا: تزايد احتمالات دخول تركيا الحرب ضد «الدولة الاسلامية» بشكل جدي، والانضمام بقوة إلى التحالف الستيني بقيادة الولايات المتحدة، وربما إرسال قوات تركية خاصة إلى كل من الأراضي العراقية والسورية لمحاربة هذه الدولة، مما قد يؤدي إلى ردود انتقامية انتحارية من قبلها في الأشهر المقبلة، خاصة أن هناك آلاف المقاتلين الأتراك يقاتلون في صفوفها، ولهم وجود قوي في منطقة غازي عنتاب وولاية أنطاكيا (هاتاي) قرب الحدود مع سورية.
اختيار حي سلطان أحمد التاريخي الذي يعتبر واحدا من أهم المعالم السياحية التركية في إسطنبول، إن لم يكن أهمها، لوجود متحف أيا صوفيا والجامع الأزرق فيه، لتنفيذ هذه العملية، يذكرنا بإقدام أحد «جهاديي» الدولة التونسيين صيف العام الماضي، على فتح نيران مدفعه الرشاش على السياح البريطانيين في منتجع سوسة، وقتل ما يقرب من الأربعين منهم، مما يؤكد أن من خطط لهذا الهجوم ونفذه، يريد ضرب صناعة السياحة في تركيا على غرار ضرب القطاع نفسه في تونس، وإلحاق الأذى بالاقتصاد التركي الذي يواجه صعوبات كبيرة أبرزها انخفاض قيمة الليرة، وانهيار الأسواق المالية، وانخفاض نسبة النمو إلى أقل من ثلاثة في المئة، بعد أن كانت تفوق السبعة في المئة في السنوات العشر الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان.
تركيا، في نظر الكثير من المراقبين الأتراك والعالميين، بدأت تدفع ثمن الأزمة السورية، وتورطها فيها، بشكل مباشر أو غير مباشر، فلولا هذه الأزمة، وضخ مليارات الدولارات وآلاف الأطنان من الأسلحة من قبل دول خليجية، وفتح الأراضي التركية لمرورها وعشرات الآلاف من المقاتلين المتشددين للانضمام إلى فصائل المعارضة السورية المسلحة، لما تحولت «الدولة الاسلامية» ومثيلاتها من الفصائل الجهادية المتشددة إلى ما هي عليه الآن من خطر ضخم تتحالف أكبر قوتين في العالم، هما أمريكا وروسيا في جبهة واحدة، مع قوى إقليمية وأوروبية لمواجهته، دون نجاح ملموس حتى الآن.
الرئيس رجب طيب أردوغان من الساسة الشرق أوسطيين الذين يملكون دهاء نادرا، ورؤية سياسية أوصلت بلاده إلى مكانة اقتصادية وعسكرية مرموقة، ولكنه أخطأ في حساباته عندما اعتقد أن أيام الرئيس السوري معدودة فعلا، وأن نظامه سيسقط في غضون أسابيع أو أشهر فقط، مثلما أخطأ مرة أخرى عندما اعتقد أن بامكانه تجنب الصدام مع «الدولة الاسلامية»، وإقامة مناطق حظر جوي في سورية قرب الحدود التركية، وراهن على الحليف الأمريكي الذي غالبا ما يخذل حلفاءه.
من الصعب التكهن بما يمكن أن تتطور إليه الأوضاع في تركيا في المستقبل المنظور، وما إذا كان هذا الهجوم الانتحاري عملية معزولة، أم أنه في إطار مخطط أكبر، لكن أن تأتي هذه العملية بعد أقل من شهرين من هجوم مماثل على تجمع لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي في محطة قطارات العاصمة أنقرة، ويقتل فيه العشرات، وتتهم الحكومة عناصر تابعة لـ«الدولة الاسلامية» بتنفيذها فهذا أمر يدعو للقلق على أمن تركيا واستقرارها، ووحدتها الوطنية والترابية، لأن آخر شيء تريده تركيا هو وصول الفوضى الدموية التي تسود المنطقة إلى أراضيها.
لا نبالغ إذا قلنا، ودون أي تردد، أن الرئيس السوري بشار الأسد هو أول الشامتين وأكبرهم، ولا نعتقد أنه سيبادر، بإرسال برقية عزاء إلى نظيره التركي بضحايا هذا الهجوم الانتحاري، ولسان حاله يقول «ألم نقل لكم أن من يضع عقربا ساما في جيبه سيلدغه في نهاية المطاف»، ثم يأتي بعده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي طالما اتهم الحكومة التركية بدعم «الدولة الاسلامية» وشراء نفطها، ثم بعد ذلك تأتي قائمة طويلة من الشامتين والحاسدين للتجربة التركية في النهوض الاقتصادي، والزواج بين الاسلام والديمقراطية، في محيط دول الجوار التركي، ومن بينهم دول أوروبية لا تكن أي ود لتركيا، وتتعامل معها من منطلق (العدو الذي ما من صداقته بد).
الحكومة التركية تخوض الآن حربا على جبهتين ضد الارهاب، الأولى ضد «الدولة الاسلامية»، والثانية ضد حزب العمال الكردستاني الكردي، وهي حرب صعبة بكل المقاييس، فالمثل التركي يقول «من الصعب حمل بطيختين على ذراع واحدة في الوقت نفسه»، ينطبق على السيد أردوغان وحزبه، مع فارق أساسي أن هاتين البطيختين اللتين يحملهما من النوع الضخم (الشلين)، والثقيل جدا، ومن الصعب الاستمرار بحملهما لمدة طويلة، دون أن تنكسر إحداهما، أو الاثنتين معا.
شخص مثلي، نظر بإعجاب كبير إلى سياسة «صفر مشاكل» التي أوصلت تركيا إلى المرتبة السابعة عشرة في منظمة الدول العشرين لأقوى الاقتصاديات في العالم، وحققت ثورة صناعية، وطفرة اقتصادية وتحول اجتماعي متقدم، ودأب طوال السنوات العشر الماضية دون انقطاع على قضاء إجازته وعائلته في المنتجعات التركية. شخص مثلي يتمنى أن تجتاز تركيا هذه المحنة، بأقل قدر ممكن من الخسائر.
الرئيس أردوغان الذي مد يده إلى اسرائيل طالبا تطبيع العلاقات، ومؤكدا أن البلدين في حاجة إلى بعضهما البعض، وهو توجه نعارضه كليا، مطالب أيضا، وبالبراغماتية السياسية نفسها، أن يراجع سياساته التي أوصلته، وبلاده إلى هذا المأزق الخطير، وهو قطعا، ورئيس وزرائه أحمد داوود أوغلو، ومستشاره الأول للشؤون العربية الصديق سفر طوران يدركون جميعا ما نقول، ولعل الأخير يتذكر حوارات بيننا على شاطيء البوسفور قبل ثلاث سنوات، وتطرقنا فيها إلى كل هذه الأمور، وكنا ناصحين ومحذرين، ونكتفي بهذا القدر لأن المجالس أمانات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى