شوف تشوف

واجب الاعتذار

في العشرين من هذا الشهر ستجتمع كل الجمعيات المساندة للحركة الاحتجاجية بالريف بأوربا في مدريد لوضع مخطط لمواكبة مطالب ساكنة الحسيمة والدفاع عن ذلك أمام المنتظم الدولي.
هذا التحرك يعيد إلى الأذهان ما حدث في باريس عندما تأسست مجموعة أصدقاء سوريا والتي يعرف الجميع ما آلت إليه بعدما ظل النظام السوري متماسكا، بدعم من روسيا وإيران، رغم خمس سنوات من القصف المكثف.
وبما أن أحد مطالب قادة الحركة الاحتجاجية بالحسيمة هو بناء مركب صحي لمعالجة حالات السرطان المتفشي في الريف بسبب مخلفات الغازات السامة التي استعملها الجيش الإسباني خلال حربه ضد مجاهدي عبد الكريم الخطابي، فإن أول مطلب يجب أن يضعه هؤلاء المجتمعون في مدريد في قائمة مطالبهم هو المطالبة باعتذار الحكومة الإسبانية للريفيين عن قصفهم بالغازات الكيماوية وتعويضهم عن الخسائر التي لحقتهم والتي مازال أبناؤهم وأحفادهم يدفعون ثمنها من صحتهم.
حقا وكما قال أحد متزعمي حراك الريف فالمنطقة كانت تعرف خلال الوجود الإسباني عدة مصانع، لكن لا يجب أن تنسينا هذه النوسطالجيا للوجود الإسباني بالمنطقة التي يستشعرها البعض الجرائم المروعة التي ارتكبها هذا الوجود في حق الريف وسكانه.
لقد سكتت كل الأحزاب المغربية عن مطالبة إسبانيا بالاعتذار للريفيين على قصفهم بالقنابل الكيماوية انتقاما من المقاومة الشرسة والبطولية التي أبداها الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي ومجاهديه أمام الجيش الإسباني، فبعد الهزيمة النكراء التي ألحقها الريفيون بالإسبان في معركة أنوال، والتي مازالت وزارة التعليم الإسبانية تدرسها في مقرراتها التعليمية إلى اليوم كأكبر هزيمة للجيش الإسباني في كل العصور، أعطى الجنرال فرانكو، وبمباركة من الملك ألفونسو، أوامره بقصف المدنيين العزل في قراهم وأسواقهم الريفية بأطنان من القنابل الكيماوية التي أمدته بها الحكومة النازية بألمانيا.
والنتيجة كانت هي إبادة عشرات الآلاف من المغاربة المدنيين، وإصابة عشرات الآلاف الآخرين بعاهات مستديمة بسبب تلك الغازات الكيماوية المحظورة بموجب اتفاقية لاهاي لسنة 1899 و1907.
بعد اللجوء إلى هذه الطريقة الجبانة ضد المدنيين الريفيين، اضطر الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى الاستسلام ووضع السلاح، حتى لا تتم إبادة سكان الريف عن آخرهم بالغازات الكيماوية الألمانية الصنع.
سبعة وثمانين سنة بعد هذه الحرب القذرة التي أباد فيها الجيش الإسباني قرى ريفية عن آخرها، اكتشفت وزارة الصحة أن أكبر نسبة للإصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية توجد في منطقة الريف.
وهذا ليس مستغربا، مادام تأثير الغازات الكيماوية التي استعملها الجيش الإسباني ضد المدنيين يمتد إلى مئات السنين.
والغريب في الأمر أن العالم بأسره يتحدث عن ضحايا غازات هتلر من اليهود، فيما يرفض الجميع الحديث عن ضحايا غازات هتلر من الريفيين المغاربة، فألمانيا النازية أيضا تتحمل المسؤولية في الإبادة الجماعية للريفيين. والخطأ ليس خطأ الآخرين، بل خطؤنا نحن الذين تقاعسنا عن تكريم هؤلاء الآلاف من الضحايا ولو بنصب تذكاري بسيط في ساحة عامة.
وعندما نرى عدد المتاحف والنصب التذكارية والأفلام السينمائية والكتب التي خصصت للحديث عن ضحايا غرف الغاز التي أعدمت داخلها النازية آلاف اليهود، نخجل من أنفسنا لأننا لم نخصص للآلاف من ضحايانا الريفيين الذين أعدمهم الجيش الإسباني بالغاز النازي ولو برنامجا تلفزيونيا واحدا يعيد رسم ملامح الجريمة البشعة التي تعرضوا لها بدم بارد.
ولعل ما يجب على جمعيات المغاربة المغتربين في أوربا الذين يستعدون للاجتماع في مدريد هو إعادة طرح ملف ضحايا الغازات الكيماوية في الريف من جديد على الساحة الدولية، إنه لمن المخجل أن يطالب الحزب اليساري الجمهوري الكطالاني الحكومة الإسبانية بتحمل مسؤولياتها التاريخية أمام حرب الإبادة الكيماوية التي قام بها الجيش الإسباني في الريف، في الوقت الذي لم نسمع جمعية واحدة تطالب بإعادة الاعتبار لمحرقة الريف المنسية.
قضية ضحايا الغازات الكيماوية في الريف ليست قضية الريفيين وحدهم، أو فقط قضية بعض «النشطاء» الذين نصبوا أنفسهم متحدثين رسميين باسم الريف وأبنائه. قضية ضحايا الغازات الكيماوية يجب أن تكون قضية المغاربة جميعهم، بأحزابهم اليمينية والمعارضة، وبجميع جمعياتهم الحقوقية والمدنية داخل المغرب وخارجه.
أما إذا كانت جثث الريفيين الذين استشهدوا غدرا بسبب القنابل الكيماوية الإسبانية، ستتحول اليوم إلى ورقة للمزايدات السياسية الرخيصة بين الأحزاب والجمعيات، فهذه إهانة جديدة ستضاف إلى إهانة الغدر والنسيان التي تعرض لها هؤلاء الشهداء.
من حق المغاربة أن يطالبوا اليوم الحكومة الإسبانية بالاعتذار عن الجريمة الإنسانية البشعة التي ارتكبها جيشها في الريف ضد المدنيين. ومن حقهم أن يطالبوا بتعويض مادي يتناسب وحجم الضرر الذي أصاب المنطقة، والذي مازالت نتائجه تكلف الريفيين إلى اليوم أموالا باهظة بسبب الأمراض المميتة التي ورثوها من كل تلك الأطنان من القنابل الكيماوية.
لقد رأينا كيف اعتذرت إيطاليا للشعب الليبي عن الغازات الكيماوية التي استعملها جيشها ضد المجاهد عمر المختار وسكان القرى المدنيين لإجباره على الاستسلام. ورأينا كيف اعتذرت فرنسا للجزائريين الذين أجرت بالقرب منهم تجاربها النووية.
فهل تدع الحكومة الإسبانية كبرياءها جانبا وتعتذر للريفيين عما قام به جيشها من جرائم إبادة، وتعوضهم عن التدمير الكيماوي الذي ألحقته بالريف، والذي يكلف خزينة الدولة المغربية الملايير كل سنة.
وبما أن الحكومة الفرنسية صرفت تعويضات لسكان منطقة بشار الجزائرية لتعويضهم عن أضرار التجارب النووية التي قامت بها هناك، هل تتذكر الحكومة الفرنسية أسماء مناطق قريبة من بشار كبوعرفة وفكيك توجد في التراب المغربي، تعرض سكانها أيضا لأضرار صحية بسبب تجاربها النووية. والدليل على ذلك الارتفاع المقلق لحالات الإصابة بالسرطان في تلك المناطق مقارنة بمناطق أخرى من المغرب.
على الدولة والحكومة المغربية وجمعيات المجتمع المدني داخل المغرب وخارجه أن تظهر جدية وحزما أكبر في الدفاع عن مصالح أبنائها، خصوصا عندما نكون أصحاب حق، وليس طالبي صدقة أو معونة، هكذا سيحترمنا الخصوم والأصدقاء على السواء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى