الرأي

واقعة «البريجة» وما أدراك ما «الواقعة»

لم تخضع مدينة ساحلية، على المحيط الأطلسي، لمثل العقود الطويلة من الاحتلال، كما عانته «البريجة»، نسبة إلى أبراج «الجديدة» التي نصبت في مواجهة الغزو القادم من وراء البحر. وإذ يتقاطر الزوار على ضريح مولاي بوشعيب في موسمه أو باقي الأيام، يصبح استحضار وقائع المجزرة التي طالت المحتمين بالضريح، مسلمين ومسيحيين، تمثلا للوعي بمرحلة بطش أغرقت المساجد والأديرة بالدماء، ازدراء للمعتقدات والقيم واستهانة بالكرامة.
لا غرو أن التاريخ الحديث يحتوي على مفاخر تتحدث عن إسهام رواد حركة التحرير، من أبناء المدينة ذاتها في معركة الاستقلال. فقد حاول الفرنسيون تجريب استنساخ ما فعله البرتغاليون دون جدوى، وما عجز عنه احتلال دام قرنين ونصف القرن، لزم محاولات فرض السيطرة واستعباد الناس في حقبة لاحقة. وبقيت الأبراج والقلاع والأسوار التي تحمي المدن من الغارات الأجنبية شاهدة على توالي الهجمات، إلى أن استنهض أبناء الجديدة والقبائل المجاورة والقوات الحامية هممهم وفكوا الحصار المضروب عن البريجة، وحرروها من قبضة الغزاة البرتغاليين، على عهد حكم السلطان محمد بن عبد الله.
استأثرت هذه الوقائع المثيرة في الصمود والصلابة والقدرة على التحدي، باهتمام المؤرخين والأدباء والشعراء والفنانين، لما حفلت به من ملاحم بطولية. وكنت تابعت تجربة أقدم عليها الفنان الراحل إدريس التادلي، تعرض إلى معارك البريجة. فقد استغرقت منه الكتابة أكثر من ثلاث سنوات، وكلما توقف أمام حدث أو معطى تاريخي، يذهب إلى المراجع والمصادر يستنبط منها أوجه الروايات، ولا يلبث أن يستعين بأبحاث مؤرخين معاصرين.
مع أنه كان موظفا بمسرح محمد الخامس، فقد كان مدير المؤسسة الأستاذ عزيز السغروشني لا يبخل عليه بالتشجيع، كي يتفرغ للبحث والكتابة، وزرته يوما في مكتبه هناك، فوجدته وسط ركام من الأوراق والرسائل، يجتهد لتصنيفها والتحقيق فيها، عندما كان يهيئ بحثا في الأمثال الشعبية المغربية، يقابل الإيحاءات والمعاني بين مدينة وأخرى، وبين قول وآخر، وبين استعارة وشبيهها.
ليست المرة الأولى التي انفتحت فيها أبراج الجديدة أمام أعمال فنية، فالتاريخ له سحره الذي لا يبهت. وقد بدأ المسرح العربي، كما السينما والفنون الاستعراضية، بالارتواء من نبع التاريخ. كان المبدعون الرواد في المسرح يستغفلون السلطات الاستعمارية، من خلال تقديم أعمال تاريخية ذات إيحاءات قوية لتلافي مقص الرقابة. لكن الكاتب المقتدر عبد الله شقرون، الذي لم يسطر أحد من قبله أو بعده كل ذلك العدد الهائل من الإبداعات الإذاعية والتلفزيونية، على مدى حياة حافلة بالعطاء والتضحية، اختار من قبس التاريخ عملا رائدا حمل عنوان «الواقعة»، ضمنه وقائع مراحل الكفاح لاسترداد مدينة الجديدة من المغتصب البرتغالي.
أسند الإخراج إلى ابن الجديدة الفنان محمد سعيد عفيفي، الذي اعتكف طويلا في مسرح «مازاغان»، يناجي الروائع الفنية العالمية. وجمع كبار ممثلي فرقة الإذاعة ونجوم المرحلة، العربي الدغمي ومحمد حسن الجندي وأمينة رشيد وأحمد الطيب العلج وعبد الرزاق حكم، ومحمد جاد، الذي سينتقل من قسم التمثيل إلى عالم الأخبار في الإذاعة المركزية، وآخرين.
بيد أن ولع الكاتب عبد الله شقرون بالمؤلفات التاريخية وبتبسيط روائع الشعر العربي الذي أحال قصص كيلوباترا وقيس وليلى والكرنك وأمجاد التاريخ، إلى أعمال مسرحية، كان امتدادا لانفتاحه على عالم الأدب والإبداع. إذ كان يميل إلى الالتزام بالارتقاء بالذوق، وحتى عندما ألف باللهجة العامية ابتعد عن السوقية والابتذال، لأنه كان يرى في اللغة أداة تربية ووعي.
في زمن انحدار الأعمال السينمائية، أرغب في نقل واقعة ارتبطت بـ«واقعة» عبد الله شقرون التي قدمت إلى الجمهور في مطلع ستينيات القرن الماضي. والأكيد أنها مثل كثير من الروائع تعرضت للإتلاف وانمحت من ذاكرة الأرشيف الإذاعي والتلفزيوني الذي كان في بداياته. فقد شاهد المسرحية مخرج سينمائي عربي، وتتبع أطوار عرضها في مدن عدة، وعند كل عرض كانت تتبلور في ذهنه مشروعات فنية.
اقترح ذلك المخرج الذي سهوت عن اسمه، بعد أن تناهت القصة إلى مسمعه عبر أحد الرواة الذي لم يكن سوى الشاعر المريني، الذي كان أعد ملفا خاصا عن المسرح المغربي لمجلة أصدرتها وزارة الثقافة في حينه.. (اقترح) على الكاتب عبد الله شقرون تحويلها إلى شريط سينمائي، يكون محور إنتاج مشترك، ويفتح أمام السينما المغربية مجاهل التوسع والتعريف في العالم العربي، لولا أن الفكرة ستتبخر، جراء التعقيدات الإدارية.
أتأمل الصورة عن بعد، لم يبق من «الواقعة» سوى أنها بشرت بزمن البطولات في مواجهة الاحتلال. وأكاد أستسلم أمام «واقعة» أخرى محبطة، مفادها أن المسرحيين والسينمائيين المغاربة لم ينتجوا شيئا عن الثغور السليبة، سبتة ومليلية اللتين تحتلهما إسبانيا شمال البلاد.
يصدح التاريخ بأن حصار المدن المغربية كان ينتهي دائما إلى تحريرها وجلاء المغتصب. لكن البطولات في التاريخ والسينما، كما الأدب وكل أشكال الإبداع، تتعرض دائما إلى نوع من التبخيس والإهمال. فمن يذكر الإبداعات التاريخية للمخرج سهيل بن بركة الذي كان حظه عاثرا، يوم أنتج شريط انتصار على مشارف اندلاع حرب الخليج الثانية في العراق.
هل النصر والانتشاء به ممنوع إلى هذا الحد؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى