شوف تشوف

شوف تشوف

وقل اعملوا

لعل أقوى وأعنف المواقف التي صدرت ردا على بلاغ وزارة الداخلية بشأن حظر صنع وبيع البرقع الأفغاني كانت تلك التي عبر عنها عبد الحميد أبو النعيم وأحمد الريسوني.
فالأول وصف من يقف وراء هذا القرار بـ”الزنديق والخبيث والديوث وعدو الله”، وليس هذا فحسب، فقد اعتبر أبو النعيم منع ارتداء “البرقع”، مع أن لا أحد منعه، بمثابة “الحرب على الجبار”، بمبرر أنه يتعارض، حسبه، مع الآية القرآنية التي تدعو المسلمات إلى ستر أجسادهن وعدم إظهار زينتهن.
أكثر من ذلك، فقد أعلن أبو النعيم أنه على استعداد لخرق القانون وللمتاجرة في النقاب دون أن يجني من ذلك أي ربح مادي، متحديا قرار الداخلية.
وإذا كان أبو النعيم قد وصف وزير الداخلية، بحكم أنه هو من يتحمل مسؤولية إصدار قرار حظر صناعة البرقع الأفغاني وبيعه، بالزنديق والخبيث والديوث وعدو الله، أي أنه أخرجه من الملة وأهدر دمه، فإن أحمد الريسوني، قاطن “الدوحة” الشريفة، قد أخرج وزارة الداخلية من الحكومة عندما قال إن بنكيران رئيس الحكومة المعين لا علاقة له بوزارة الداخلية لأنها لا تتبع له، أي أنه يخلي مسؤولية بنكيران من هذا القرار، الشيء الذي يبدو أنه نزل عليه بردا وسلاما، إذ لم نسمعه يدافع عن وزير داخليته معلنا مسؤوليته، كما فعل في السابق، عما تصدره الداخلية من قرارات.

ما يثير الانتباه في ردود أفعال أبو النعيم والريسوني هو أنهما يعتبران البرقع لباسا شرعيا، ومقياسا للعفة والإيمان والورع، والحال أن البرقع ليس سوى مظهر خارجي من مظاهر التدين، لا يعني بالضرورة أن حاملته مثال للاستقامة والتقوى والعفة، مثلما هو الحال بالنسبة لحامل اللحية ولابس السروال الأفغاني القصير ولابسة الحجاب.
فهذه المظاهر الخارجية للتدين لا تعني بالضرورة أن أصحابها مؤمنون صادقون، فالمظاهر ليست في النهاية سوى مظاهر والأهم في الدين هو العمق، أي ما يوجد في القلب.
ولعل أكثر من يظهر في مثل هذه الظروف التي تنخفض فيها مناعة المجتمع اتجاه تجار الدين، هم هؤلاء الفاشلون المتلفعون بثوب الخلاص، ليقودوا الكل نحو الخراب المحقق.
كثير من المتحذلقين والوصوليين والطامحين على غير بصيرة والمتاجرين بالدين والقيم والمعتقدات، امتهنوا قبل هؤلاء مهنة “المخلص”، وتقمصوا دور “المنقذ”، فكان أن انتهوا كلهم، أو جلهم، نهايات مأساوية أليمة أقلها فداحة النبذ والازدراء والفضيحة.
مشكلة المغاربة أنهم حساسون جدا اتجاه كل من يتكلم بالدين، ولديهم قابلية فطرية لتصديق أي شيء يصدر عن شخص يبدي مظاهر التدين، كالزي واللحية والقسم بالله.
وهذا طبعا ليس غباء من طرف المغاربة، بل يمكن أن نحسبه على ما نسميه “النية”، وبمجرد ما يكتشف المغاربة أن نيتهم التي وضعوها في شخص ما لم تكن في محلها يشطبون عليه نهائيا ويسحبون منه ثقتهم.
والواقع أن المغاربة يجب أن يتعلموا كيف يفرقون بين الدين ومظاهر التدين، وأن يتوقفوا عن الحكم على الآخرين بمجرد النظر إلى مظهرهم الخارجي، وأن يتعلموا الحكم على الناس من خلال أفعالهم وسلوكهم ومعاملاتهم.
فليس كل من يربي لحية هو موضع ثقة عمياء، وليست كل من تلبس برقعا أو تضع حجابا هي رابعة العدوية، فكم من ملتح يخفي تحت لحيته المصائب، وكم من منقبة ومحجبة تخفي تحت ردائها الويلات.
وكم من امرأة ترتدي النقاب أو الحجاب فقط لكي “يوقرها” الرجال في الشارع، في حين “تلقاها مكاتصليش حتى الصلا”، وكم من امرأة تضع “الدرة” فقط لأنها “ما فيها ما يمشي عند الكوافورة”، وكم من ملتح لو “حسن” وجهه لاكتشفت عدد “السيكاتريسات” التي يخفيها تحت لحيته.
أما تربية “الموسطاش” فهي تخفي عند كثيرين مشكلة “الأفواه الخربة” والأسنان المسوسة، وأسنان “الدان” التي يعاني منها البعض.
ولذلك فالمغاربة لديهم صعوبات في الابتسام في وجوه بعضهم البعض، وأحيانا تفاجأ بشخص لا تعرفه وليس بينك وبينه عداوة ينظر إليك بغضب مقوسا حاجبيه كما لو أنك قتلت له أحد أفراد أسرته، وعندما تتعمق في أصل المشكل، تجد أن المغاربة لا يبتسمون في وجوه بعضهم البعض، ليس لأنهم متكبرون أو متعجرفون أو لأنهم يعشقون ربط «الغوباشة»، ولكن أحيانا فقط لأن أسنان أغلبهم لا تصلح لعرضها أمام الآخرين في «تفرنيسة» واسعة.
ولذلك تجد أغلبهم يربي «موسطاشا» كثيفا لكي يغطي به على الواجهة الأمامية الخربة لأسنانه «المهرمشة».
وحسب آخر دراسة لوزارة الصحة، فإن أسنان الفئة العمرية المتراوحة ما بين 35 و44 عاما من المغاربة تصل نسبة التسوس فيها إلى 97.7 % بمعدل 12.72 % من الأسنان المسوسة لكل فرد. وإذا كان المغاربة متساوين في شيء، ففي السوسة.
ولا تضحكوا بسبب هذه الأرقام، فموضوع تسوس أسنان المغاربة أخطر وأهم بكثير من موضوع حظر صنع وبيع البرقع، وما لا تريد أن تفهمه الحكومة هو أن شعبا يعاني من تسوس الأسنان وتواجه أغلبيته خطر تساقطها، بغض النظر عن الذين يسقطونها لهم أمام مبنى البرلمان، هو شعب مكلف من الناحية الصحية. فمشاكل الأسنان التي تظهر لأول وهلة سطحية وبسيطة يمكن أن تتسبب في مشاكل وخيمة على القلب والجهاز الهضمي ترفع الطلب على الخدمات الصحية العمومية، وبالتالي تضاعف ميزانية وزارة الصحة.
وإلى حدود اليوم، هناك أربعة آلاف طبيب أسنان تابعين لوزارة الصحة، في مقابل عشرة آلاف «صانع أسنان» تابعين لوزارة الصناعة التقليدية. وبسبب ارتفاع تكاليف العلاج، فإن الأغلبية الساحقة من المغاربة يفضلون «تصاويب الفم» في ورشات «ميكانيسيانات» الأسنان المنتشرين في كل الحومات، والذين يفصلون «الفام» مثلما يفصل الصانع التقليدي «الشرابل»، فكلاهما يمارس حرفة تدخل في إطار القطاعات التابعة لوزارة الصناعة التقليدية.
وليس خافيا على أحد أن كثيرا من «صانعي الأسنان» هؤلاء لا يحترمون الشروط الصحية في ما يخص الأدوات التي يشتغلون بها في أفواه عباد الله. وهكذا تصبح هذه الورشات منجما لنقل الأمراض المعدية والفيروسات القاتلة لكل تلك الآلاف من المواطنين الفقراء الذين يسلمون أفواههم لهؤلاء الصناع التقليديين.
ولعل هذا ما يفسر كون ثلاثة في المائة من المغاربة يحملون فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي من نوعي باء وسين، وهي نسبة مخيفة ترجع بالأساس إلى عدم تشديد المراقبة على مهن تقليدية لها علاقة بتلوث الدم، كصناعة الأسنان والحجامة والحلاقة وتختين الأطفال بأدوات غير معقمة.
خلاصة الأمر هي أن المظاهر خادعة ولذلك لا يجب أن نحتكم إليها وحدها لاتخاذ موقف من الآخرين، سواء بالإيجاب أو السلب، وحدها الأعمال والسوكيات والمعاملات تحدد قيمة الإنسان ومدى عمق إيمانه وتدينه وخوفه من الله.
والله تعالى قال في محكم كتابه “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”، فالعمل في نهاية المطاف هو ما يهم وليس المظهر.
وصدق من قال “كونوا دعاة إلى الله وأنتم صامتون، قيل وكيف ذلك، قال: بأخلاقكم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى