الرئيسية

.. وكان الأمير الأحمر شاهدا على تورط الجزائر في حرب الصحراء

حرص وزير الخارجية السعودي الأمير الراحل سعود الفيصل، على متابعة أطوار المفاوضات التي قادها حسني مبارك، من موقعه نائبا للرئيس المصري، في كل من الرباط والجزائر، للبحث في تطويق الأزمة التي نشبت جراء تدخل قوات من الجيش الشعبي الجزائري في الصحراء.
كان شاهدا على وقائع مثيرة، وكان تعاطيه والتوتر الذي انفجر بين المغرب والجزائر اتسم بالحكمة والواقعية. فقد كان يخطو على درب دبلوماسية هادئة ووازنة، تنطلق من تحقيق أهداف رأب الصدع وتنقية الأجواء العربية. ومن غير أن يبحث عن تسليط الأضواء على الدور الذي اضطلعت به بلاده في هذا المجال، كان يهمه أن تتقدم المساعي الحميدة نحو الانفراج. لم يصدر عنه أي تصريح أو موقف، لأنه كان يعتمد على فضيلة التواضع والإنجاز على أرض الواقع، لكن دوره يبقى شاهدا ومؤثرا.
أسفر ذلك التدخل السافر عن إحباط خطة جرى تنفيذها باتفاق بين الجزائر ولوبيات عسكرية ومدنية إسبانية، كانت تعارض الانسحاب من الصحراء، واقتضت أن يتغلغل الجيش الجزائري في الصحراء للاستيلاء على مراكز حيوية، وخلق الأمر الواقع أمام المغرب، لإفشال اتفاق مدريد. وفيما كان العلم الإسباني يتوارى عن الأبنية الرسمية لتخفق مكانه الراية المغربية، كانت فيالق الجيش الجزائري تتوغل في الصحراء.
كان مفهوما أن تنبري أوساط إسبانية متشددة لمناهضة انسحاب الإدارة والجيش الإسبانيين من الصحراء، لكن المسوغ الجزائري الذي اهتم بترجمة مقولة الرئيس الجزائري هواري بومدين حول «المسيرة الخضراء» التي اعتبرها تهديدا للأمن الجزائري، لم يكن متصورا أن يصل إلى حد التدخل العسكري في فترة انتقالية دقيقة، كانت الإدارة والقوات المغربية في طريقهما إلى الإمساك بزمام الأمور.
بيد أن استراتيجية دفاعية محكمة أقرتها القوات المسلحة الملكية على عجل، أقامت كمائن ذكية، إذ تركت الجيش الجزائري يتقدم إلى أن وصل إلى منطقة «أمغالا» ثم أجهزت عليه بضربة قاضية. كان من نتائجها أسر أعداد كبيرة من الضباط والجنود الجزائريين الذين صنفوا على القوائم الأولى لأسرى نزاع الصحراء. وإنه لشيء يبعث على الازدراء أن يكون أولئك الأسرى جزائريين، فيما لازالت الدوائر الرسمية في الجزائر، بعد مرور أزيد من أربعة عقود تردد أنها لا مطامع لها في الصحراء وأنها غير معنية بالقضية، على حد طروحاتها المقرفة.
خلاصة المفاوضات التي أدارها حسني مبارك عبر جولات مكوكية بين الرباط والجزائر، ركزت على سبل ضمان وحدة الصف العربي وصون المظهر الحضاري الذي أبانت عنه الدول العربية في دعم القضية الفلسطينية، واستخدام سلاح النفط للمرة الأولى في الضغط على الدول الغربية للاعتراف بمشروعية المطالب الفلسطينية والعربية. لكن سعود الفيصل، الذي عرف منذ البداية بعدم نفاد صبره وطول نفسه في الإقناع والاقتناع، صاغ نموذج الدبلوماسية الرصينة الهادئة التي لا تكل من طرح المبادرات، واضطلع وقتذاك بدور محوري في تعبيد الطريق أمام التوصل إلى اتفاق مبدئي.
لم يكن يرغب في تدويل النزاع، كان يدرك حساسية الجزائريين إثر تلقي ضربة موجعة، أعادت إلى الأذهان مأساة حرب الرمال. ولم يكن المغاربة يقايضون بالأسرى الجزائريين، وإنما يقدمونهم للدلالة على التورط الفاضح للجزائر. وكل ما يعنيهم أن تكف السلطة الجزائرية عن التدخل في قضية الصحراء، سيما وقد سبق لرئيسها الراحل هواري بومدين أن أكد أمام القمة العربية التي التأمت في الرباط، أن الجزائر لا مطمع لها في الصحراء. لكن حضور الأمير سعود الفيصل أشواط المفاوضات عن كثب شكل ضمانة مبدئية في غضون الدور الوازن للمملكة العربية السعودية، كونها ستعاود بعد أقل من عشر سنوات على ذلك الحادث، مساعي الوئام، لدى رعاية الراحل الملك فهد بن عبد العزيز أول قمة ثلاثية جمعت الملك الحسن الثاني والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد.
بعد قمة فاس العربية التي أقرت أول خطة سلام، ظهر الأمير سعود الفيصل عبر تحركات اللجنة السباعية العربية التي طافت عواصم الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، كمثال لدبلوماسية الضغط الهادئ الذي يلوح بغصن الزيتون. وحين زار موسكو لقبته الصحافة الدولية بـ«الأمير الأحمر» كونه كان أول شخصية سعودية رفيعة تعمل على إذابة الجليد بين الرياض وموسكو في ذروة الحروب الإيديولوجية.
عندما اندلعت أزمة الحرب الأهلية في لبنان، بدل الأمير سعود الفيصل جهودا مضاعفة لتطويقها، وكان من أبرز من ألحوا على المغرب، بحكم بعده الجغرافي وارتباطاته العميقة مع لبنان، أن يكون على رأس لجنة الحكماء الثلاثية التي انبثقت عن القمة الاستثنائية التي استضافها المغرب. فقد كان مهتما بحلحلة الأزمة اللبنانية، وفي الوقت نفسه كان يرى أن سير المغاربة والجزائريين جنبا إلى جنب في التعاطي والأزمة اللبنانية، يمكن أن يساعد في تقريب وجهات النظر المتباعدة حول الموقف في منطقة الشمال إفريقي. فقد كان يعتبر دبلوماسية المؤتمرات وسيلة لإزالة الغيوم. ولم يكن غريبا أنه بعد المصافحة التي تمت بين الحسن الثاني والرئيس الشاذلي بن جديد في رحاب مكة المكرمة، صار في الإمكان توقع التئام قمة مغربية – جزائرية على مشارف الحدود المشتركة بين البلدين الجارين.
إبان اندلاع أزمة الخليج، سمعت رفقة أعضاء وفد إعلامي مغربي، الأمير سعود الفيصل يتحدث بحسرة عن اضطرار بلاده إلى الدفاع عن حدودها وأمنها، في مواجهة بلد عربي آخر لم يكن سوى العراق. كان يتحدث بنبرة حزينة يمتزج ضمنها الإصرار على حماية الأمن العربي ككل. وشاءت الأقدار أن يغيبه الموت في ظرف تعاظمت فيه التهديدات ضمن كل ما هو عربي وشرعي وحضاري، لكنه أوفى دبلوماسية المبادئ والأخلاق الرفيعة حقها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى