شوف تشوف

الرأي

.. ومن الصور ما يزعج!

نحو أربعة عقود أو يزيد، مرت على التقاط صورة أثارت لغطا شديدا. كان بطلها وزير خارجية مغربي سلطت عليه الأضواء الكاشفة، في غير المؤتمرات والمباحثات السياسية والاستقبالات الدبلوماسية المندرجة في اختصاصه.
الصور أنواع، بعضها يتم الاحتفاظ به، وبعضها يمزق إربا إربا، إذ يذكر المعنيين بما تعمدوا نسيانه. لا بأس إذن من استحضار سلوك الوزير الذي كان يخصص مبالغ مالية لكل من يأتيه بصورة أيامه البئيسة، كي ينزعها من الأذهان. وكم من الكتب والمجلات تعرضت للإتلاف بسبب صورة اندست بين صفحاتها.
ومن تداعيات الصورة أن الزعيم السياسي امحمد بوستة طلب إليه رأيه في كتاب تضمنت صفحاته صورة لشخصية كانت متنفذة. لكنه بدل أن يدلي بدلوه أو يخوض في نقاش حول ما أحل الله وما حرمه، اكتفى بالقول: «كم حاجة قضيناها بتركها». وأدرك الوزير السائل، الذي لم يكن سوى سعيد بلبشير، وزير الثقافة الأسبق، أن ترك الشيء فرع من تصور ما قد يترتب عليه. وما الحياة إلا صور وذكريات بعضها يخلد، وبعضها يسقط من الثقوب. غير أن صورة الحكاية هاته مختلفة.
كانت المناسبة زيارة قام بها وزير خارجية شهير إلى باريس التي لا يكتمل حضورها في الذهن والسلوك، من دون نزهة في «الشانزليزيه»، واحتساء قهوة في «لافوكيت»، أو الانشراح في غداء تحضنه «لاكوبول» منذ اختارها الفيلسوف جان بول سارتر مكتبا دائما خارج زحمة الأسئلة الحرجة. ثم استقر بها الشاعر المغربي المجنون محمد خير الدين، يناجي ذاته والآخرين.
ما بين العشاء عند «ماكسيم» تحت أضواء الموسيقى الخافتة، أو التربع على طاولة في «الليدو» لمتابعة استعراضات السيقان العارية والتسلي بوجبة «الفواغرة» الثمينة ومظاهر البذخ، اختار الوزير أن يقضي سهرة باريسية بكل الطعم والنكهة والحفاوة الأرستقراطية.
نحن في زمن تستقطب فيه باريس ذروة الاهتمام، المعارضون الأشد مناوءة يستقرون بها، ونخب الموالين يحجون إليها للترفيه والتبضع، كما الحلاقة والتجميل والسهر. ولا تخلو جلسات مخملية من ذكر مآثر عاصمة العطور والأزياء والأضواء والإغراء. ولم تكن زيارة وزير الخارجية أكثر من تكريس تقليد دأب علية القوم على التباهي به، وإن كان بعض الاستجمام تكتنفه أحداث غير متوقعة.
على نفحات تحرك الوجدان ألغى الوزير منصبه وصفته وما يلزم من التحفظ، وأطلق العنان لنزوات آخر الليل التي تفضح الخلجات. قبالته إلى الطاولة اقتعدت حسناء شقراء كرسيين وثيرين، أحدهما أمامه والآخر في قلبه. وما بين الهمس والبوح غاص الثنائي العاشق في عالم حميمي، وصل إلى درجة تبادل اللمس والقبلات، لمَ لا؟ فاللحظات لا تعاود نفسها بالزخم والدفء ذاته.
من طقوس «الليدو» وقتذاك أن يلتف مصور ماهر حول الزبناء، يلتقط لهم الصور في أوضاع مختلفة، حتى إذا انتهت السهرة قدمت لهم تلك المشاهد في شكل تذكارات، ملصقة على إطارات تحمل اسم المكان، أو منافض سجائر يتم الاحتفاظ بها.. وما على الزبناء إلا أن يختاروا ما يريدون.
حالة ذاتية يمر بها الجميع، ومن لم يحفر اسمه على جذع شجرة إبان رحلات الشباب، أو ينقشه على أريكة من صخر أثناء الزيارات، يضيع على نفسه متعة الاحتفاظ بذاكرة المكان. لذلك برع أصحاب الملاهي الفاخرة والأماكن الأثرية في ابتكار وسائل قطف الذكريات بالصور. لكن الوزير المغربي لم ينتبه، في غمرة اللحظة، إلى أن مصورا محترفا من طينة ملاحقي المشاهير كان يترصده.
بينما كان الوزير يخرج سيجاره الكوبي وينحني على الحسناء التي جلست قبالته لإشعاله، على غير تقليد ولع الهافانا الذي له طقوس وقواعد.. كان المصور يصوب عدسته نحوه، من دون إشعاره بأن غريبا دخل على الخط. ولهؤلاء المصورين ما يكفي من التجارب والأساليب التي تمكنهم من اقتناص اللحظات الحميمية، حتى أن أحدهم استطاع يوما أن يلتقط صورة للأميرة الراحلة ديانا، وهي تضع يدها إلى الخلف، وقد سطرت على كفها عبارات موجهة إلى عشيقها المتيم. وعندما نشرت تلك الصورة على صفحات «باري ماتش»، أحدثت ارتجاجا في قصر «باكنغهام»، سينتهي ذات ليلة بمقتل الأميرة ديانا تحت جسر في باريس التي انطفأت أضواؤها في لحظة أسى ورثاء لا ينفع.
غادر الوزير سهرته مترنحا، بالكاد استطاع أن يضع معطف الفرو على جسد الحسناء التي ترافقه، فيما لم تفارق يده كفها الناعم. صورة أخرى وثالثة ورابعة ليكتمل المشهد، قبل أن يمتطي الاثنان السيارة التي أقلتهما إلى الإقامة في فندق فاخر. وبعد أقل من يومين رشحت صورة الوزير والحسناء التي اعتبرت فضيحة دبلوماسية، لم يكن ينقصها الخيال لنسج روايات حول علاقات الوزير.
ثمة من ذهب إلى أنه يمتلك شقة في أحد الأحياء الراقية في باريس يفد إليها رفقة عشيقته الحسناء. وثمة من استهجن سلوكا من هذا النوع يقوم به رئيس الدبلوماسية المغربية آنذاك. وما فتئت الألسن تلوك الحكايات المثيرة عن «الدونجوان» المغربي الذي تردد أنه يذهب خلسة إلى باريس.
استغرب الوزير للضجة المثارة حوله. ولأنه كان رجل قانون، لجأ إلى أحد المحامين الفرنسيين الذي أقام دعوى قضائية ضد المنبر الإعلامي الذي نشر صورته، بمبرر أن الأمر يتعلق بتشهير لا أخلاقي. وضع المحامي شكايته معززة بوثائق مترجمة إلى اللغة الفرنسية، تفيد بأن التشهير طال الحياة الشخصية لموكله.
في العادة لا تقلق بعض المنابر الإعلامية المتخصصة في هكذا صور وأحداث، حين تتلقى دعاوى قضائية، فهي تضع في الاعتبار دائما أن كلفة النشر ستكون غالية، لكن انتشار الصحيفة أو المجلة يعتبر أغلى. غير أن مصدر القلق هذه المرة كان يخص مصداقية المؤسسة الإعلامية التي غامرت بنشر صورة حقيقية بتعليق زائف.
مجمل القصة التي تدخل وسطاء لإنهاء النزاع القانوني حولها لفائدة وزير الخارجية المغربي، أن تلك الحسناء لم تكن غير زوجته الشرعية، ما أسقط كل المزاعم والادعاءات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى