الرأي

وهل تستطيع صبرا؟

على سطح مقهى في الرباط لمحت الرجل الذي ضرب لي موعدا هناك. كانت علاقتي بالمناضل مصطفى القرشاوي لا تزيد عن إلقاء التحية، وكنت أصغي إليه في جدليات «اتحاد كتاب المغرب»، منفتحا يمزج الثقافة بنبرة غاضبة، وأثناء الحديث تنساب على لسانه واقعية أخرى، هل كان يكتمها أم دأب على أن يعيش على نمط تجربته؟ الوجه مثل القفا، وما تغير.
إن لم يكن القرشاوي في الجريدة كان في السجن، وإن كان خارجه يتوقع زوار الفجر في أي لحظة. ويوم التقيته في الرباط كان عائدا من رحلة عذاب ألقت به في سجن القنيطرة. كان لا يزال على صورته، انتشر شيب على شاربه، ولا يكاد يتصفح الجريدة من دون نظارات.
عرضت عليه رغبتي في العمل في «المحرر» وقتذاك، فرحب بالفكرة، وأحالني على الزميل عبد الله بوهلال، قال إنه سيكون في انتظاري للبحث في التفاصيل. لم يكن الاشتغال في الصحافة حينها يخضع لقوانين وإجراءات إبرام العقود، أو حتى النقاش في الأجور. فقد ارتبطت الصحافة بالنضال، أكان على الصعيد الحزبي أو في نطاق فاعليات موازية.
لم يسألني القرشاوي لماذا تركت «العلم»، فقط أخبرني بأن الصديق عبد الجبار السحيمي حدثه عني. كانت الفترة حبلى بصراعات حزبية وفكرية وإيديولوجية، وكان «اتحاد كتاب المغرب» خزانا تصب فيه كل تلك البراكين حممها، ثم يلتقي الجميع على طاولة حوار نبرات الفكر والإبداع. لذا حين توجهت إلى «روش نوار» لمقابلة الزميل الراحل عبد الله بوهلال، اكتفى بالسؤال عن قضايا الثقافة والنشر.. فقد كانت الثقافة بوابة يعبرها القادمون إلى عالم الصحافة.
رحب بي عبد الله، وقال: «إن صحافتنا مختلفة، فهل ستستطيع صبرا؟». كمن انتشلني من حلم يقظة طرق السؤال سمعي، ثم أمهلني فترة تفكير، أعود بها لألتحق بالجريدة أو نشرب قهوة سوداء معا. غير أن العودة لم تكتمل، فقد وجدت الدار البيضاء أكثر غربة مما كنت أتصورها. وعدت إلى «روش نوار» لاحقا كواحد من زبناء «لاباطوار» في آخر الليل، فقد كانت تشدنا نزعة أخرى إلى الحياة، فيما زملاء من قامة مصطفى القرشاوي وعبد الله بوهلال وآخرين كانوا غارقين في أحلام التغيير الذي تصوروه قادما.
ما أخلف الراحلون منهم مواعدهم التي لا تشعر أحدا. وردد المتبقون على حد قول الزميل عبد السلام البوسرغيني: «نحن من تبقى من تجربة «التحرير». في إشارة إلى الزعيم عبد الرحمن اليوسفي والكاتب المخضرم حسن العلوي، والصحفي الصامت عبد الجليل باحدو. فقد كانت مدرسة في الصحافة والنضال تفرعت عنها تجارب، ليس آخرها «المحرر» التي منح الصديق أحمد المديني ملحقها الثقافي روحا جديدة، استأثرت أثراً وتأثيراً.
لم يخطر للراحل بوهلال أن يفكر يوما أنه يستطيع صبرا، من أن يتجه إلى مكتبه المتنقل بين «التحرير» و«المحرر» و«الاتحاد الاشتراكي»، فهو أيضا لا يعرف فعل شيء آخر، غير أن يكون في المطبعة إلى جانب زملائه في التحرير، أو يكون في «المطابع الأخرى» التي تنتج صفحات القمع والتعذيب والزج بالمناضلين إلى غياهب السجون.
ولأنه كان مثل الرائد الذي يكذب أهله، فقد أصبح وجها مألوفا لدى الشرطة التي تقصده مباشرة، من دون استئذان، أكان الأمر يتعلق بحجز الصحيفة أو اعتقال مديرها ورئيس تحريرها، أو استنطاقه بشأن مطبوعة كانت توصف في الأعراف البوليسية بأنها «سرية». فقد كان اسمه يقفز إلى الواجهة عبر كل الأحداث، على امتداد حوالي أربعة عقود.
متهم باستمرار وإن ثبتت براءته، وفي سيرته الذاتية والمهنية أن صحافة النضال التصقت بجلده وامتزجت بدمه، حتى أنه عندما كانت الأعناق تشرئب في اتجاه المغرب الذي يستحق أن يفتخر باستقلالية مواقف أدبائه وصحفييه، رست الشراع على بوهلال في تجربة فريدة لدعم القضية الفلسطينية عبر الصحافة. وسمعت «أبو مروان» يصفه بأنه فلسطيني المبدأ والهوى.
التقيته مرات قليلة، فقد كان الصديق محمد برادة يستظل كل الصحفيين على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم تحت خيمته الوارفة. وأسعفني بأكثر من دردشة عابرة مع رجل الظل عبد الله بوهلال. لكن أغرب ما تناهى إلى العلم أن بعض رفاقه من بين «قدماء المحاربين» الذين لم يستسلموا لإغراءات ومباهج الدنيا الفانية، أن أحدهم قال في تأبينه إن أقصى ما يرجوه أن يطيل الله في عمر الصديق محمد برادة لينثر خيرا على قبور الصحفيين الذين يغادروننا تباعا.
ما يحز في النفس شيء أكثر من التناسي، فالنسيان له مزاياه، لكن معايب التناسي كثيرة. وما فكر الراحل بوهلال فيما أعتقد أنه سيعيش وحدته الأخيرة بقساوة التناسي. كان ينسى نفسه في العمل، واختار معانقة الظلال المتوارية إلى الخلف، ولو أنه كان في الواجهة، إذ يتم اقتياده إلى السجن الذي ما أضاع منه الأمل.
قال رجل شهم كريم، وأنا أبادله العزاء في شقيقه الذي غيبه الموت قبل أيام: «إنما نحن قبور واقفة» تمشي على الأرض وتتنفس الهواء وتصارع وتنافس، لكنها تظل قبورا لابد أن يأتي وقت تتمدد فيه على الثرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى