شوف تشوف

الرأي

يوم دافع الحسن الثاني عن انفصالي في واشنطن

ليس مثل أماكن السهر قابلية للشجار. بسبب أو من دونه تنفلت اللحظات عن زمام السيطرة، والعاقل من يرى ولا يسمع، أو يغض الطرف عن الحاستين ويغادر إلى أرض الله الواسعة. لكن شابا مغربيا يحمل الجنسية الأمريكية أبى إلا أن يعاكس زائرا من بني وطنه إلى واشنطن. حاول استفزازه بكلمات نابية، وحين اكتشف برودة أعصابه رمى في وجهه بنعوت تخدش الكرامة وتهين الكبرياء.
كان جدل بدأ حول زيارة يقوم بها الملك الحسن الثاني إلى واشنطن وقتذاك، إبان ذروة اندلاع حرب الصحراء. لم تكن الإدارة الأمريكية تميل إلى تزويد المغرب بأسلحة، وترددت مرات في تلبية طلبات بهذا المعنى، ثم عاودت النظر في موقفها بعد أن اكتشفت أن ليس في إمكانها أن تبقى السوق الوحيدة، ومن في جيبه ما يدفع لن يعدم بوصلة تجارة الأسلحة. وتبينت في ضوء التطورات أن الرباط تخوض حربا دفاعية محضة، وأن الطابع الإيديولوجي للصراع الدائر في شمال غرب إفريقيا، يفرض خروجها من دائرة المتفرج اللامبالي.
لا يدور الجدل داخل الكونغريس أو في أوساط إدارة البيت الأبيض، فتلك مسألة لها قوانينها وأوفاقها وقواعدها، لكنه انسحب على جلسة داخل مطعم بين شخصين، أحدهما زائر عابر والآخر شاب يقيم في أمريكا أبدى حماسا زائدا للطرح الانفصالي، ليس عن قناعته، وإنما إمعانا في أن يظهر كمعارض للنظام، واستغل زيارة الحسن الثاني لواشنطن لإطلاق العنان بما لا يحبسه اللسان. وتطور الأمر إلى شجار استعملت فيه الأيادي وتكسرت من شظاياه الكراسي والأواني، وهيمنت جلبة وفوضى حتمت تدخل قوات الأمن الفيدرالي التي اقتادت المتعاركين إلى مركز الشرطة، وفتح تحقيقا تسنده وقائع استخدام العنف والكلمات، والقذف بشخص رئيس دولة.
تجاوزت الساعة منتصف الليل، وكان لابد للزائر من إشعار رفاقه ومسؤوليه بملابسات الحادث الذي لم يكن واردا تجنبه، على رغم انضباطه وتقييد مشاعره، فثمة لحظات لا يملك المرء أمامها إلا الاستسلام لردود الأفعال التي تجيش على قدر المساس بالكرامة والشعور بالإهانة وعدم الاحترام الواجب.
تحركت قنوات الاتصال لتطويق مضاعفات الحادث، كونه على رغم التقليل من حجمه، يمكن أن يثير زوبعة في فنجان لا ضرورة لها.
انفتحت أبواب السفارة المغربية في واشنطن، وباشر دبلوماسي مغربي ذو خبرة في إطفاء الحرائق مهمة رصد التطورات التي كان طبيعيا أن تنتقل إلى ردهات المحكمة. وبين حمل الشاب المندفع للجنسية الأمريكية وتوفر قرينة الحصانة للزائر المغربي الذي كان في مهمة رسمية، ارتدى الملف طابعا مثيرا. سيجر بعض الذين عاينوا الواقعة إلى الإدلاء بشهادات عززت موقف الزائر الذي أبدى في نهاية المطاف مرونة عالية، لناحية الصفح على خصمه الذي وجد نفسه في موقف أكثر حرجا. لكن سقف القانون أعلى.
توالت دقات الساعة مسرعة، وبطيئة أيضا في البحث عن مخرج. واقتطع دبلوماسيون من الوقت ما سمح بمتابعة قضية سقطت فجأة من السماء. لكن صبح واشنطن يبدأ باكرا فيما وفود الزوار بالكاد تتأقلم مع متغيرات دوران الكرة الأرضية.
تساءل مقربون: ماذا لو تناهى الأمر إلى الملك الحسن الثاني؟ ففي المحصلة أن مواطنين مغربيين تشاجرا، في لحظة منقطعة عن السير العادي للعلاقات بين الناس. وهناك ما يكفي من القضايا والملفات التي تجعل النأي عن الخوض في نازلة من هذا النوع «ترفا» أو إقحاما لأشياء صغيرة في أجندة كبيرة.
لا يفوت الوقت في واشنطن، لذلك فاجأ الحسن الثاني مقربين إليه بالسؤال عما حدث، كانت صورة تكونت لديه عن وقائع تلك الليلة وما دار فيها من جدل عنيف. لم يستثن شخصه من النقد اللاذع، وكان لابد من تقديم الحادث من زاوية أقل مدعاة للقلق. فليس من مهام القادة أن ينوبوا عن رجال القضاء والمحققين والشرطة. قد يتدخلون في أمور ذات طبيعة سياسية أو نزاعات بخلفيات مؤثرة في مجريات الأحداث، لكنهم أبعد عن نوازل الحياة اليومية،
من قبيل عراك شخصي أو خلافات زوجية أو ما شابه من مبطلات راحة البال.
أمر الملك بمتابعة الموقف، وبدا أن هموم الملفات الاستراتيجية في حواره مع الإدارة الأمريكية التي همت الأوضاع في المنطقة وآفاق العلاقات الثنائية وسبل تحريك عجلة السلام العالقة في مستنقع الشرق الأوسط، لم تنسِه متابعة وقائع شجار حدث في مطعم في آخر الليل.
قال الحسن الثاني إن شجار مواطنين مغربيين في واشنطن لا يليق بسلوك وتقاليد المغاربة الذين دأبوا على الانضباط لأوفاق البلدان التي تستضيفهم. وإنه لا يمكن تقبل تلطيخ هذه السمعة لمجرد أن أحدهم ركب رأسه. وعقب على موقف الشاب حامل الجنسية الأمريكية بأنه يدعو إلى مواصلة الجهد في الإقناع والحوار. ولم يلتفت إلى ما صدر عنه حيال شخصه، موضحا أن قضية الصحراء أكبر من الأشخاص، مع أنه ظل يرفض بقوة أن يتبنى أي مواطن مغربي موقفا يناقض الإجماع. فقد اعتبر وجود فئة قليلة من المشككين يعني وجود تقصير يتعين تلافيه.
قبل أن يطوي صفحة الحادث العارض، أمر الحسن الثاني مسؤولي السفارة المغربية باختيار محام أمريكي، يكون من أبرز الشخصيات، يتولى الدفاع عن الشاب المغربي المتهور الذي كان يواجه عقوبات قاسية، ثم صار في طليعة المدافعين عن عدالة وشرعية القضية الوطنية لا تخلو تظاهرة أو منتدى من حضوره، حاملا لواء الدفاع عن ملف الصحراء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى