شوف تشوف

الرأي

آيات غير شيطانية

كثيرون مروا من هنا. تقول غرفة منزوية إلى أدراج تفصل مدخلها عن عمارة قديمة، في حي «باب بوحاجة» في سلا. وعبر صمتها الموغل في الرتابة وفوضى المكان، تلح في القول إن هذه الغرفة لا يسكنها إلا الرسامون الذين لا موارد لهم.
لا يحتاج الممثل لغير حركاته وقدراته على تشخيص الأدوار، ولا يتطلب المطرب غير حنجرته في إطلاق المواويل. بينما الفنان التشكيلي يقيم قسرا في غرفة «باب بوحاجة» لأنه في حاجة إلى القماش والأصباغ المائية أو التقليدية. إضافة إلى رعاية معرضه الأول، كما العشق الأول الذي لا ينسى.
يصمت المطبخ المتهالك في الغرفة غير الفسيحة، وتلوذ جدرانها إلى ذكريات أولئك الذين عبروا من هنا إلى مملكة الرسم، ميلود الأبيض ومحمد القاسمي وبورقبة وزيارات خاطفة لمحمد شبعة، وآخرون سطعوا أو تواروا في الزحام. الجيلالي الغرباوي وضع بصماته هناك عندما كان يطل من نافذة أشبه بكوة لالتقاط حركة الأطفال الذين تنفلت منهم الكرة وتستقر في الغرفة ذاتها.
يكشف الصديق الرسام محمد البوكيلي القادم من فاس، أنه عثر على بوصلة، أقرب إلى مصباح علاء الدين السحري، يكفي أن يقيم في تلك الغرفة بضعة شهور، يتفرغ خلالها إلى إنتاج لوحات تشكيلية، ثم ينظم معرضه الأول في قاعة «النادرة» في الرباط. يشرح بأن موظفا في مفتشية المالية يدعى محمد السرغيني اقترح عليه الفكرة، على أن يتولى تزويده بمستلزمات العمل: الفرشاة والصباغة والقماش وما تيسر من «ساندويتشات» وعلب سجائر. وبعدها يصبح لكل مقام مقال.
كان السرغيني أقرب إلى متعهد حفلات المشي الأول على طريق الشهرة. يهوى الفن التشكيلي والموسيقى ويجمع نوادره، من بين أنامل الرسامين المغاربة الذين يحتاجون إلى متعهدين. يفسحون أمامه الطريق إلى غزو المعارض. هل كان تاجرا أم شغوفا بتسنيج المواهب الواعدة؟ الأهم أنه احتضن أسماء كانت مجهولة وطوح بها إلى العلياء. فاللوحات المبكرة مثل القصائد والكتابات التي تسبق النشر، يكون لها دائما أثر أكبر.
معرض كامل في مقابل إقامة لبضعة أشهر في غرفة «باب بوحاجة» ليس صفقة مغرية. لكن لوحات رسمها البوكيلي في فاس لم يرهنها بغير مصروف الجيب في زمن أقفر. ولازلت أذكر كيف أني طفت شوارع فاس القديمة والجديدة أبتغي ابتياع إحدى لوحاته دون جدوى. كانت عبارة عن منظر للطبيعة الحية لرسام عالمي. وكم كانت فرحته كبيرة حين حاز العشرة دراهم الأولى واقتنى بها كتابا قديما بلوحات الرسام بابلو بيكاسو، لازال يحتفظ به إلى اليوم.
التشكيليون ليس بينهم والمال ألفة ومحبة. وكبار المبدعين قضوا حياتهم يعانون الفقر والملق. ثم انهالت الثروات على مكتنزي لوحاتهم بعد أن غيبهم الموت. كما في حالات مبدعي الروائع الموسيقية العالمية والجداريات التي استحالت إلى متاحف نادرة. لكن من أطلق على قاعة احتضان رسومات المبدعين في الرباط اسم «النادرة» كان يعرف أن الندرة عنوان التألق. فهي لا تشبه ملاعب الأحياء في ممارسة هواية كرة القدم، ولكنها تصطفي النجوم من الندرة التي لها حكم في تقييم الظاهرة الإبداعية.
من معرض لآخر، اخترق البوكيلي الأبواب الموصدة، غادر غرفة «باب بوحاجة» الضيقة وأبقى على علاقات مودة وتقدير مع المتعهد محمد السرغيني الذي يقول عنه إنه كان إنسانا فاضلا. كان يبحث عن وضع اسمه إلى جانب المبدعين الذين اشترك معهم في اقتسام ظروف العيش في المكان نفسه. جرب أن يكون تجريديا من غير الابتعاد عن الواقعية. سحرته شخصيات عربية وإسلامية، وكان من أبرز المساهمين في تخليد ذكرى الشاعر الأندلسي ابن زيدون، إذ رسم له لوحة متخيلة وأخرى للمرأة التي اسمها «ولادة».
في تجربة إعلامية مثيرة رعاها الصديق الدبلوماسي محمد سعد العلمي، همت إصدار مجلة «الهدف» التي تعرضت كافة أعدادها للحظر. خاض البوكيلي غمار وضع الأغلفة والماكيت، ثم انجذب إلى عالم الصحافة مبدعا في الإخراج الفني. وبقي وفيا لأسلوبه كفنان حاذق لا يغرق اللوحة بالألوان، وإنما يصطفي من الورد رحيقه. وحين غادر إلى السعودية حمل معه زاده الذي يمتزج فيه مداد وإنتاج المطابع بمقام الرسم الذي لا تبهت حروفه وألوانه.
من وحي الآية الكريمة «الرحمن» صاغ البوكيلي تجربة تشكيلية نادرة. محورها أن اللوحات مثل الفصول لا تكتمل من دون رباعياتها الأزلية، صيفا وشتاء وخريفا وربيعا. وعلى غرار موسوعات الأدب والفكر ذات الأجزاء المتواصلة، استخرج ما يزيد على أربعين لوحة مترابطة مع بعضها. ومنح بذلك وحدة الموضوع صدارة التربع على صدر اللوحة اللامتناهية، فقد استدعى الإعجاز القرآني إلى مجال أرحب آخر، اعتمد صورة الحرف الذي ينطق.
في كل مرة أساله متى سيقيم معرضا باسم «الرحمن» يصر على أن بعض الرسومات لا تتجزأ. لذلك اكتفى بإقامة معرض دائم في فضاء مختلف. ذات زمن حط رسامون مغاربة كبار الترحال في ساحة جامع الفنا في مراكش، ما اعتبر تحولا في ارتباط اللوحة بفضاء مغاير للفنادق وصالات العرض المكيفة. لكن البوكيلي عاد إلى «البادية». ومن خلال مؤسسة تحمل اسمه أقام منتدى ثقافيا على ربوة لا تبعد كثيرا عن «المهدية» بين القنيطرة والرباط.
يحرص على تكريم المبدعين وينتقي من الأسماء الشابة الواعدة معرضا سنويا للمبدعين الشباب العرب. ولا يزال يحلم بإقامة تظاهرة ثقافية بأسماء فنانين من كافة الأقطار العربية. يكون شعارها تكريم التجربة المغربية المتميزة سياسيا ونوعيا وثقافيا. فأين وزارة الثقافة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى