الرأي

أجمل الكتب

أجمل الكتب التي توقظ الوعي وتشحذ ملكة النقد ليست كثيرة.
وأعظم عمل يعمله الفرد في بيته، وضع مكتبة من ذخائر الكتب، لا تزيد عن بضع مئات في فترة عشر سنين.
وكتاب مثل القرآن غير التاريخ، وكتاب رأس المال لكارل ماركس تحول إلى إنجيل في يد الشيوعيين، والكتاب الأحمر لماوتسي دونج كان وقود الثورة الثقافية في الستينات فجاءت بهلاك عشرة ملايين من الأنام والرفاق يصفقون، وفي بلاد العرب هتف الكثيرون للمعجزة المزيفة. أما الكتاب الأخضر للقذافي فلم يوزع إلا بقوة المخابرات والدولار لقوم لم يقرؤوه، حتى قذفه الله إلى مصير فرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد؛ فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب. أن ربك لبالمرصاد.
وأقوى الكتب ما ثبت وبقي مع الوقت. مثل قوة الذهب واليورانيوم. والناس تقرأ حتى اليوم (حكم كونفوشيوس)، و(الطرق الثمانية) لبوذا، و(هكذا تكلم زرادشت) لفيلسوف القوة فردريك نيتشه الألماني، والمقال على المنهج للفرنسي ديكارت، ونهج البلاغة للإمام علي كرم الله وجهه، والسلام الأبدي لإيمانويل كانط الألماني، والإحياء للإمام الغزالي أو كتاب القانون لابن سينا.
ويحلق (ابن خلدون) في مقدمته عبر القرون، بكل جبروت فيطل من علو، أما كتابه في التاريخ فلا يقرؤه إلا المتخصصون، وفيها أيضا من قصور عصره الكثير، وهي خلة كل من كتب مطوقا بثقافة وعصر وزمان. وهنا يتجلى القرآن فيبين ويحلق من رب العالمين.
نحن نعلم خبر تدمير فكر المعتزلة، ولكن أفكار (إبراهيم النظام) في الطفرة ما زالت تستهوي (محمد إقبال) فيكتب عنها في تجديد التفكير الديني، في محاولة فهم مغزى الزمن، وحل معضلة زينون في الحركة، وميكانيكا الكم.
ويعتبر (برتراند راسل) أن مائة دماغ في التاريخ يزيد وينقص كانت خلف أسرار النهضة في أوربا، ولو أجهضت بشكل أو آخر لسارت أوربا قرونا أخرى في ظل محاكم التفتيش حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
نحن نظلم التاريخ حين نقول إن أفكارا بعينها غيرت مجرى تدفق الأحداث؛ بل يجب النظر إلى روح العصر وتفاعل عناصر لا حصر لها في ولادة الأحداث، مثل انفجار الأمراض، وهو أمر نعرفه نحن الأطباء جيدا، ولذا كان الطب علما والسياسة دجلا.
وجانب كارل ماركس الصواب حينما زعم أن الاقتصاد خلف كل شي، أو فرويد أن الجنس محرك البشر، فالتاريخ عصي على كل تفسير.
ويحسن صنعا شرَّاح الفكر الفلسفي حين يقولون للطلبة: يمكن لنا أن نشرح لكم تدفق الأحداث من نهايتها، أما ماذا يحدث في الغد فعلمه عند ربي في كتاب، لا يضل ربي ولا ينسى.
وحاليا نعرف أن الطيران بدأ مع القرن العشرين لتوفر الآلة وعم في أكثر من بلد. والأشياء تبدأ صغيرة لتصبح كالسيل العرم، ولا يتفطن لهذا التطور كما يقول ابن خلدون إلا الآحاد من الخليقة.
ومن ملأ بيته بكتب السحرة تحول إلى ساحر، وعندما أدخل بيت أحد الناس أعرف أين يعيش؛ فإن كان أعظم ما في البيت المطبخ والأواني عرفت أنه خارج إحداثيات الزمان والمكان يعيش مثل السنوريات.
ودخلت بيت طبيب يوما فرأيت الرفوف احتشدت بكتب ضخمة مذهبة العقب! فسألني عنها حين رآني أشمشم الكتب قبل كل شيء؟ وهي عادتي في دخول أي بيت جديد. قلت له عليك أن لا تغضب مني؛ فأنت تعيش عصر المماليك البرجية أيام سعيد جقمق. والرجل ليس عنده تصور لا عن عصر المماليك ولا من هو سعيد جقمق.
والرجل فوجئ فقد كان يظن نفسه أنه يملك ذخائر المعرفة، كما أنه لم يكن قد سمع بسعيد جقمق. وكلمة جقمق تعني بالتركية ولاعة السجائر.
وفي النماص من عسير (السعودية جنوبا) تحدثت مع طائفة من مثقفي القوم فتحدثت عن فكرة ابن خلدون في النشوء والارتقاء، فاكتشفت أن بين القوم من لم يسمع بعد بكاتب من حجم ابن خلدون، وحين تنسى الأمم رجالها من العقول المبدعة فتودع منها.
وقبل أيام كنت أحدث شابا متدينا عن رياض الترك الذي سجنه الطاغية حافظ الأسد سبعة عشر عاما في الإفرادية، في الوقت الذي كان واعظ السلطان البوطي يقسم للطاغية أن ابنه يطير بجناحين من فضة في الجنة، ويأوي إلى حواصل طير خضر، حين سمع كلامي كان جوابه: لم أسمع به؟
قلت إنها أرض تجمع قومين من يعيش بيولوجيا وفكريا.
وتذكرت الأتراك في ألمانيا فقد يعمل العامل في مصانع تيسين لصناعة الحديد عشرين عاما، ولم يسمع عشرين كلمة عن هايدجر وكارل ياسبرز وهيجل ونيشته وموزارت وشوبنهاور من عمالقة الفكر والفلسفة والموسيقى لأن ألمانيا تعني له عملا مربحا وعشاء دسما يملأ معدته وبرامج ترفيهية ينسى بها ضغط العمل.
وفي يوم خرجت من صلاة العشاء فحدثت طبيبا اختصاصيا في الجهاز الهضمي من جامعات فرنسية فحدثته عن توينبي المؤرخ العملاق. قال لم أسمع به؟ قلت له إنها كارثة فكرية؟ أجاب بحدة: هي كارثة لك وليس لي؟ قلت له صدقت غلبتني. ورددت في قلبي قول الشافعي: ما جادلني جاهل إلا غلبني وما جادلت عالما إلا غلبته، وليس الطب أكثر من مهنة، وصديقي البليهي تعلمت منه جملة مفيدة؛ أن ليس ثمة فرق كبير بين الطبيب وسائق الشاحنة فكلاها مهنة وليست ثقافة، والثقافة حسب البحريني الجابري هي وداع نفق التخصص، كما أننا نعاتب الشافعي في موضوع الغلبة والمغالبة؛ فالعلم ليس غلبا ولا مغالبة بل حوارا وفائدة.
ومن أمريكا أرسل لي طبيب يدرس في أحدث أبحاث المناعيات إعجابه بواعظ شعبي؛ انكشفت عورته بعد زمن مع أحداث الثورة في مصر فصفق للعسكر؛ فتعجبت وعرفت أن العقل المسلم منشطر قسمين؛ فنصفه في الماء ونصفه في الطين، كما جاء في قرآن مسيلمة عن الضفدع. فالرجل قال: أن محمدا نزلت عليه سورة النحل والنمل والبقرة والفيل وأنا نزلت علي سورة عن الضفدع المسكين الذي لا يعيره أحد بالا:
يا ضفدع بنت ضفدعين.. نقي ما تنقين .. لا الشارب تمنعين.. ولا الماء تكدرين.. نصفك في الماء ونصفك في الطين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى