شوف تشوف

الرأي

أسئلة 30 يونيو ومشروعها السياسي

رغم أن انتفاضة 30 يونيو لم تبحْ بأسرارها بعد، فإن مشروعها السياسي الذي صار متمثلا في مواجهة الإرهاب يستحق المناقشة والمراجعة. الحدث أكبر بكثير مما نظن، ذلك أنه يمثل منعطفا بالغ الأهمية وعميق الأثر في تاريخ مصر، وهو ما يتعذر الإحاطة به في الوقت الراهن. ذلك أن الغموض سيظل يكتنف خلفيات وقائع ما جرى في 30 يونيو والسياسات التي أعقبت ذلك التاريخ، في الأجل المنظور على الأقل.
ولست أشك في أن أحداث تلك المرحلة ستظل مادة خصبة للباحثين والمؤرخين الذين قد تغريهم غوامضها بالمغامرة ومحاولة سبر أغوارها وتقصي حقائقها كما كانت، وقبل أن تعاد صياغتها لكي تتكيف مع الأوضاع المستجدة. وإلى أن يحدث ذلك سيظل الغموض سيد الموقف والمجهول أضعاف المعلوم. لذلك أزعم بأن الجزء الغاطس مما جرى في 30 يونيو لا يزال أكبر بكثير مما طفا منه وظهر على سطح الواقع وأحدث تأثيره وأصداءه داخل مصر خارجها.
إن ثمة قائمة طويلة من العناوين ستتطلب جهدا خاصا من الباحثين والمؤرخين للكشف عن حقائقها وتتبع خيوطها. فليس معلوما مثلا نصيب الدولة العميقة ولا الدور الإقليمي في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه في ذلك التاريخ. وليست معروفة وجهة النظر الأخرى في حقائق مرحلة حكم الإخوان التي أفضت إلى عزل أول رئيس مدني في تاريخ مصر جاء بانتخابات حرة ونزيهة.
كما أن العلاقة بين ثورة 25 يناير وانتفاضة 30 يونيو تحتاج إلى تحرير بعدما تبين أن الانتفاضة الأخيرة نالت من ثورة يناير بأكثر مما نالت من الإخوان. كما أن هناك علامات استفهام كثيرة حول دور عناصر النخبة في ما جرى، والتحالفات التي دخلت فيها لتصفية حساباتها أو للقيام بدور في المجال العام، الأمر الذي دفعها إلى التخلي عن منظومة القيم والمبادئ التي دأبت على التبشير بها.
ولا يقل أهمية عما سبق رصد التغير الذي طرأ على مدنية النظام السياسي المصري وأدى إلى إعادة تشكيله على هيأة جديدة. وكذلك تبيان حدود وطبيعة التغيير الذي طرأ على العقيدة العسكرية للقوات المسلحة في المرحلة الجديدة مما أدى إلى تحولها من حماية الحدود والتصدي لعدو الخارج إلى حماية النظام ومواجهة تهديدات الداخل.
جدير بالذكر في هذا السياق أن الغموض لم يعد مقصورا على ما جرى في 30 يناير، لأنه بات يكتنف أيضا بعض فصول تاريخ ما بعد الثورة. أعني بذلك إعدام ودفن تقريري لجنتي تقصى حقائق أحداث ثورة 2011 وفترة حكم المجلس العسكري عام 2012. والأول أعدته لجنة من كبار القضاة والخبراء رأسها المستشار عادل قورة رئيس مجلس القضاء الأعلى الأسبق. والثاني أعدته لجنة مماثلة رأسها المستشار عزت شرباص نائب رئيس محكمة النقض السابق.
إزاء ذلك، فلعلي لا أبالغ إذا قلت إن انتفاضة 30 يونيو تثير لدى الباحث في الوقت الراهن أسئلة بأكثر مما تقدم من أجوبة. وإذا تعذر علينا أن نتحدث عن الجزء الغاطس من المشهد، فإن ما ظهر منه يظل من الأهمية بمكان، ورغم أن غياب الرؤية يظل سمة أساسية لذلك الجزء الظاهر، إلا أننا نستطيع أن نلمس جهودا واضحة في المجالين الاقتصادي والسياسي، ولأن الأول له أهله وليس لي فيه باع، فبوسع مثلي أن يرى أن ملف الإرهاب أصبح أحد العناوين العريضة للأزمة السياسية، حتى بدا وكأن التصدي للإرهاب بات يمثل جوهر المشروع السياسي الذي خرج من عباءة انتفاضة 30 يونيو، وهو ما يستحق أن نقف عنده ونقلب بعض صفحاته.
عناوين الصحف المصرية الصادرة يوم السبت الماضي تمثل مدخلا مناسبا لتقييم التفكير المصري في الموضوع. ذلك أنها أبرزت بصورة لافتة للأنظار أخبار العمليات الإرهابية التي وقعت يوم الجمعة في الكويت وتونس وفرنسا (الأخيرة تبين أن وراءها حسابات خاصة) وقد ركز الخط العام للعناوين وصياغة الخبر على عالمية الإرهاب، على نحو أريد له أن يكرس الانطباع بأن ما يجري في مصر ليس ناشئا عن عوامل داخلية، ولكنه من أصداء الوباء الذي أصاب أقطارا أخرى في أنحاء العالم. بما يعنى أن ثمة خطرا بات يهدد الكون ويستدعي تضافر الجهود وإعطاء الأولوية بغير حساب أو عقاب للاعتبارات الأمنية، لأننا أصبحا أمام خطر مصيري يضعنا أمام تحدي أن نكون أو لا نكون.
وجدت في هذا التناول نوعا من التعميم والتبسيط الذي لا يعنى برصد التمايزات التي تعبر عن خصوصية الأوضاع في كل بلد، الأمر الذي يحدد عوامل القوة والضعف في بنية العناصر التي تمارسه. وكنت قد أشرت إلى ذلك المعنى من قبل، حين نبهت إلى أن الصراع طائفي في العراق وقبلي في ليبيا، وهو صراع سياسي في مصر، أما في سوريا فهو ثورة شعبية ضد نظام مستبد وغاشم، وفي تونس نزعة تكفيرية معادية للغرب تسعى لإفشال الحكومة لإقامة إمارتها الخاصة مستفيدة من هشاشة الأوضاع في البلاد. وهو في اليمن انقلاب اتفقت فيه مصالح بعض قوى الداخل مع مصالح وحسابات دولة إقليمية خارجية هي إيران.. إلخ.
وغني عن البيان أن لفت الانتباه إلى ضرورة إدراك تلك الخصوصية لا يراد به التهوين من شأن الصراع، ولكنه التعرف على جذوره وطبيعته في كل بلد لإنجاح جهود حسمه لصالح استقرار المجتمع وأمنه.
يحز في نفسي أن أستشهد في هذا المقام بالخبث الإسرائيلي في التعامل مع الوضع القائم في قطاع غزة الذي تتولى حركة حماس إدارته منذ ثمان سنوات. ذلك أن حماس مصنفة في الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي باعتبارها عدوا عنيدا ومنظمة إرهابية وتخريبية و… إلخ. ومعلوم للكافة قصص اغتيال إسرائيل لقادة الحركة واجتياحاتها المستمرة للقطاع التي أسفرت عن تدميره وتشريد عشرات الآلاف من سكانه.
رغم تلك الخلفية الدامية فإن ثمة جدلا مسموعا في إسرائيل يدعو إلى تفكير جديد في التعامل مع حماس والقطاع. لم يغير القادة الإسرائيليون رأيهم في الحركة ولا يزالون يسيئون الظن بها ويعتبرون أن كتائب القسام (ذراعها العسكرية) لم تتوقف عن إعداد العدة لجولة جديدة من القتال ضد إسرائيل، التي لم تتوقف من جانبها عن التأهب لتأديب حماس وردعها.
وفي حين أن الطرفين لم يتوقفا في أي وقت عن الاستعداد لجولات قادمة من القتال، فإن الإسرائيليين أدركوا أن حركة حماس تواجه مشكلة داخلية في القطاع، تمثلت في تنامي مؤشرات التصعيد ضد الدولة العبرية من جانب عناصر السلفية الجهادية الذين انخرط بعضهم في تأييد جماعة داعش (في عام 2009 أعلنت مجموعة من السلفيين إقامة إمارة إسلامية في القطاع، واعتبرت مسجد ابن تيمية في غزة مقرا للقيادة العسكرية للإمارة الجديدة، ودعا زعيمها الذي حمل اسم أبو النور المقدسي إلى الجهاد ضد حماس. الأمر الذي أدى إلى حدوث اشتباك مع سلطات الأمن أسفر عن مقتل 21 شخصا من عناصر الجماعة).
وفي الوقت الراهن فإن عناصر تلك المجموعة دأبت على إطلاق الصواريخ ضد إسرائيل بين الحين والآخر، لاستعجال المواجهة العسكرية وإفساد جهود التهدئة الحاصلة.
المناقشات في أوساط القيادات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية أدركت الفرق بين حماس وداعش، واعتبرت أن حماس خيار سيئ ولكن داعش خيار أسوأ. عندئذ انحازوا إلى الخيار السيئ، حيث اعتبروا أن داعش قد تكون البديل إذا تم إسقاط نظام حماس، لذلك أيدت الأغلبية اتباع سياسة من شقين أحدهما يتمثل في السعي للاتفاق مع حماس على هدنة لمدة خمس سنوات مثلا، والثاني يدعو إلى تيسير جهود إعمار القطاع للتخفيف من معاناة سكانه، التي تدفع بعض الشبان إلى التطرف والالتحاق بجماعة داعش.
هذه الأفكار أعلنها عدد من القادة الإسرائيليين على القناة الأولى، منهم رئيس الموساد السابق أفرايم هاليفي، ورئيس أركان الجيش السابق دان حالوتس، ورئيس الأبحاث في الاستخبارات العسكرية إيلى بن مئير.
بالإضافة إلى ذلك، حين تزايدت حالات هجوم الشبان الفلسطينيين على بعض المستوطنين، فإن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حاولت أن تعطيها حجمها، حيث ظلت تركز جهدها على التحقق مما إذا كانت تلك مبادرات فردية من فلسطينيين غاضبين، أم أنها عمليات مرتبة من قبل خلايا المقاومة.
خلاصة الكلام أن الإسرائيليين رغم إدراكهم أن كل هؤلاء أعداء، فإنهم لم يضعوهم جميعا في سلة واحدة، لكنهم حاولوا أن يميزوا بينهم وأن يعطوا كل طرف حجمه، واهتدوا بذلك في إدارة الصراع على نحو أزعم أنه اتسم بذكاء لا يُنكر.
في مقالة نشرت لي كنت قد دعوت إلى ضرورة تفكيك الإرهاب في مصر، بمعنى تحديد طبيعة وحجم العناصر المشاركة فيه. ودللت على أن العمليات الإرهابية الحقيقية والكبيرة قامت بها مجموعات من أنصار بيت المقدس وما سمي أجناد مصر، وهو ما أشارت إليه البيانات الصادرة عن تلك الجهات والتحقيقات والمرافعات التي تمت أثناء المحاكمات. إلا أن الخطاب التعبوي وظف الأحداث سياسيا ونسب كل العمليات إلى الإخوان مسترشدا في ذلك بمقتضيات الصراع السياسي.
وفى بعض الحالات ذهب الخطاب التعبوي إلى أبعد حين وضع الجميع في سلة واحدة، واعتبر تنظيمات مثل داعش والقاعدة وأنصار بيت المقدس وجبهة النصر والإخوان وبوكو حرام مجرد واجهات لمؤامرة واحدة خارجة من عباءة الإسلام السياسي (وزير الخارجية المصري أدلى بتصريحات بهذا المعنى).
وكان ذلك أحد أشكال التبسيط التي طمست الفوارق بين الجماعات وألغت خصوصية كل منها، الأمر الذي من شأنه استدراج الدولة المصرية إلى حرب مفتوحة لا آخر لها داخل الحدود وخارجها، في حين أن التعامل الجاد مع الظاهرة كان يقتضي بذل بعض الجهد لإدراك التمايزات بين هذه الجماعات للإفادة منها وإنجاح الجهود التي تبذل للقضاء على الإرهاب.
إن البعض لا يرون في مشهد الصراع سوى طرفيه المتمثلين في السلطة والجماعات، لكنهم لا يرون أن ثمة ملايين من البشر لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ولكنهم يريدون أن يعيشوا في أمان وسلام، وطموحهم وأشواقهم تتطلع إلى مشروع يتجاوز مكافحة الإرهاب التي تصلح جولة في الصراع السياسي ولكنها لا تصلح خريطة لبناء المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى