الرئيسية

أغنياء المغرب المنسيون.. تجار مرعبون شلوا الاقتصاد

تاجر لم يكن يتأخر عن أداء ضرائبه للدولة، فكانت مكافأته عن طريق أصدقائه أن أصبح يتاجر بأموال الدولة المغربية ويرجع الأرباح إلى الخزينة مقابل استفادته من صفقة ضخمة تتعلق بتصدير المعادن إلى الخارج.. حدث هذا سنة 1850 عندما كان التجار المغاربة أقوى من الوزراء ومن الجميع.

كيف صنع المخزن هيبته برجال انتهوا نهايات مأساوية ؟
ترد أسماؤهم خالية من كل الصفات المخزنية. قصصهم انتهت إلى حيث لا أحد يعلم. ليس لأنهم كانوا نكرات، لكن السبب الرئيسي، والمشترك أيضا، وراء صيرورتهم إلى النسيان، هو المآلات التي انتهوا إليها، وانقضاء المراحل التاريخية التي كانوا أقوياء خلالها.
لم يكن سهلا أن تفصل السياسة المغربية سنة 1850 وما بعدها، عن التجارة. التاجر البسيط كان بإمكانه أن يوقف الحياة في حي من الأحياء. والتاجر النافذ كان بإمكانه أن يشل بلدا بأكلمه. في مدينة الرباط، ما دامت أنها شكلت وجها من أوجه السلطة في المغرب، كان التجار النافذون يسيطرون على قطاعات اقتصادية كاملة، وكانوا بعد أن اطمأنوا لقوتهم، يمتنعون عن أداء الضرائب للدولة.
يهودا أو مسلمين، كان أغلب التجار المغاربة المشاهير، ينتمون إلى عائلات تحتكر الأسواق في ما بينها، ولم يكن مسموحا أبدا أن تضاف أسماء جديدة إلى لائحة ما بعد سنة 1850. كان كل شيء صارما. اللائحة كانت تعرف تقلصا في عدد الأسماء وليس توسعا كما هو شأن الأسماء التي دخلت عالم خدمة المخزن.
هكذا كان المغرب أمام قطبين. قطب التجار، وقطب العمال والقضاة. التجار كانوا منهمكين بجمع المال، بعضهم كانوا على علاقة وثيقة بالقصر وكان بعضهم يحظى بالتشجيع والمزيد من الامتيازات المتعلقة بتصدير أو استيراد سلع معينة. فيما منعت المعونة عن آخرين نسجوا علاقات وطيدة مع الأجانب، ودخلوا في حكم المحميين حتى قبل أن يصبح لهم وضع قانوني في المغرب.
خدام المخزن، العمال والقضاة، كانوا مستائين من ممارسات بعض التجار، وكانت هيبة المخزن تمس في كثير من المدن التي تشهد نفوذا للمال على حساب السلطة. وهكذا نشب صراع كبير لم ينتصر فيه أحد، بعد أن تطاحن الجميع.. وكالعادة، استعان المخزن بخدام آخرين، ليواصلوا تأثيث أطراف المعادلة..
في أيام الملك الراحل محمد الخامس، كان هناك رجل قوي اسمه اعبابو. هذا الأخير كان صديقا كبيرا للمولى يوسف، والد محمد الخامس. لا أحد يقدم رواية تاريخية عن قصة وصول هذا الرجل إلى السلطة. لكن الكثيرين قالوا إنه كان صديقا قديما للمولى يوسف قبل أن يصل إلى الحكم، ورافقه بعد أن أصبح ملكا على المغرب. اعبابو، جمع بين التجارة والسياسة وكل ما أمكنه الوصول إليه. كان يرى كيف أن التجار القدامى في الرباط وفاس وغيرهما من المدن التي شكلت دائما قطب المال في المغرب ولم تقض عليها الأزمات حتى بعد مراحل التسيب في الحكم، وأدرك أن عليه ضمان مكانه في المخزن عبر المزج بين التجارة والسياسة. وهكذا أصبح اعبابو الرجل الأكثر شعبية في المجالس الخاصة لعلية القوم بالمغرب.
علية القوم وقتها كانوا يجمعون بين المرجعية الدينية بالتزامهم الدائم بأداء الصلوات وارتداء الجلباب المغربي المخزني، وملازمة القضاة وعلماء الحديث. اعبابو كان واحدا ممن توفق في الجمع بين التجار والعلماء في مجلس واحد، وأحضرهم جميعا ليلتفوا حول المولى يوسف منذ وصوله إلى الحكم.
المكانة التي حظي بها هذا الرجل جعلته يصبح أكثر قربا من المولى يوسف، إلى الدرجة التي أصبح معها اعبابو يتحكم في طريقة تربية الملك لأولاده، وعلى رأسهم الملك محمد الخامس أثناء طفولته. وقد روى بعض الذين عاصروا محمد الخامس طفلا، أنه كان يحظى بتعامل غاية في الصرامة من والده، بسبب توجيهات اعبابو واهتمامه بأحد أبناء المولى يوسف الآخرين، ظنا منه أنه يعده ليصبح وليا للعهد.
لكن محمد بن يوسف، كان يعد نفسه ببطء للجمع بين مكونات رجل المرحلة المقبلة، وهكذا كان اعبابو في مواجهة معه سنوات طويلة أيام والده.
عندما توفي المولى يوسف، ظهر محمد الخامس كأصلح أبناء المتوفى ليخلفه في الحكم. تكوينه الديني جعله يحظى بإجماع العلماء، الذين كانوا يشكلون مجلس مستشارين غير مباشر. وحسب بعض الروايات التاريخية، فإن اعبابو كان قلقا جدا بخصوص مصيره بعد أن ظهر له بالملموس أن محاولاته لإبعاد محمد الخامس الشاب باءت كلها بالفشل.
لم يعد اعبابو رجلا نافذا، بحكم انتهاء مرحلة المولى يوسف الذي جلبه إلى السلطة ونعيمها. وهكذا أدرك مبكرا أن أيامه قد انتهت، وتوارى إلى الخلف. لكن المثير في قصته أن الملك محمد الخامس فور وصوله إلى الحكم، أدرك أن اعبابو قد راكم ثروة كبيرة بفضل المكانة التي احتلها أيام والده. فعمل على تجريده منها كلها، وأصبح بين ليلة وضحاها منبوذا بين جميع التجار ورجال السلطة. ويقال أيضا إن قصته كانت عبرة لجميع الذين كانوا ملتفين حول المولى يوسف، حتى أن بعض التجار سارعوا إلى تسديد ما عليهم من ضرائب للدولة فور سماعهم بمصادرة أموال اعبابو وممتلكاته، التي راكمها في زمن قياسي من حكم المولى يوسف. ولم يكن بجانبه في أزمته، غير بعض المسؤولين الفرنسيين المعينين في المغرب، الذين دافعوا عنه وأدوا ما في ذمته من ضرائب للدولة مقابل إخلاء سبيله، ورحيله عن المغرب. لكن لا أحد يعلم بالضبط كيف انتهى صديق المولى يوسف، بعد أن كان بيته محجا للعمال والقضاة والفقهاء ورجال الدولة وحتى كبار التجار الذين منحوه من الهدايا ما لم يحصل عليه مسؤول قبله.
كيف كان رجال السلطة الذين تشبعوا بالتربية الدينية وحدها دون أي خبرة في السياسة؟ الجواب في وصف وضعه لاورنس هاريس في مذكراته المثيرة عن المغرب سنة 1907. يتحدث هنا عن نائب لوزير الخارجية المغربي، لم يكن يفقه في السياسة شيئا لكنه كان نافذا داخل القصر الملكي في ذلك التاريخ. كان لديه أصدقاء فقهاء وآخرون تجار.. وهو ما يغنيه عن أي خبرة سياسية للبقاء في منصبه، ما دام يجمع صداقات متينة تتحكم في كل شيء. جاء في الوصف ما يلي: «وزير الشؤون الخارجية، لم يكن مقيما بفاس، لكنه كان ممثلا بكاتبه في فاس، عبد الله الفاسي، المقرب من المولى عبد العزيز، والذي كان يفترض فيه أن يكون أقوى رجال المخزن. معرفته بالقرآن الكريم كبيرة جدا وعميقة، لكنه لا يعرف أي شيء آخر. كان يمضي ساعات طويلة جالسا في مكتبه يدردش مع الكتّاب في ديوانه، وكان هذا الأمر يبعث على الضجر. المكتب الذي يجلس فيه يعد أهم مكتب في الوقت الذي تمر فيه البلاد بأزمة خانقة، كان المكتب واسعا جدا، وكان على الجهة اليمنى من دار المخزن، كان الوزير يجلس فوق حصير مفروش على أرض المكتب، يمتد إلى جميع الأركان إلى أن يلتصق بالجدران المتسخة. مكتبه عبارة عن طاولة خشبية لا يزيد علوها عن 8 إنشات. كل رجل يجلب معه قلما ومحبرة للمداد، ويأخذهما معه في نهاية اليوم.
حتى الآن، رغم كل الاحتقار والتعالي المفترض، الذي ينظر به رجال المخزن للنصارى، فإنهم يطمعون بشدة في امتلاك أشياء النصارى وأغراضهم. الساعة الذهبية هي الأغلى إطلاقا، ويرغبون في امتلاكها.
من المضحك جدا، رؤية الحاج عبد العلي بن الهاشمي، قايد القصبة، ذو الشعر الأبيض، حيث كان يتهادى في مشيته إلى فناء دار المخزن كل صباح، ويجلس القرفصاء قرب صديقه عبد الله الفاسي، كاتب وزير الخارجية. يبدو أنه يأتي من أجل النميمة، لكنني أعتقد أنه كان يأتي بدافع الحسد بينه وبين زملائه في جهاز المخزن».
بالعودة إلى قصة اعبابو، فإنها تشكل صورة واضحة عن الفراغ في مهام الذين حظوا بالرعاية المخزنية. حيث إن الأخير شأنه شأن آخرين، لم يكونوا في فترات قوتهم ممسكين بوزارات معينة، بل كانوا ممسكين بكل شيء، بدون صفة وزارية، ولم يكن يرعبهم أحد إلا تقلبات الدهر التي تأتي غالبا بعد أن تكون ساعة رحيلهم قد حانت.

قصة الوزارة التي كُتبت صلاحياتها على بياض في تاريخ المغرب

قصة هذه الوزارة بدأت مع المهدي المنبهي قبل حتى أن يصير على رأس الجيش المغربي. ففي كتاب «المحلات السلطانية» الذي يتحدث عن مغرب ما قبل الحماية بسنوات قليلة، توجد إشارات قوية للأدوار التي لعبها هذا الوزير القوي، الذي انتهت أيام سلطته بشكل مأساوي.
لم تكن للمنبهي صلاحيات واضحة قبل أن يصبح وزيرا. لذلك احتار في أمره كثير من خدام المخزن الأوفياء، حتى أن آخرين خافوا منه. فقد كُتب عنه في إحدى رسائل السلك الدبلوماسي التي توجد في الأرشيف البريطاني بالمغرب، ما يلي: «بالنسبة إلى المهدي المنبهي، فقد علمنا أن الوصول إلى أي اتصال مع الحاكم لن يتم إلا عبره. تاريخه ليس حافلا بالإنجازات، لكنه جاء إلى القصر بتوصية خاصة من رجل ائتمنه الحسن الأول على أسراره. وهكذا أصبح رجل الدولة الأول. لن يكون هناك أي تقدم على مستوى العلاقات مع المغرب في الوقت الراهن، ما لم يتم نسج علاقات قوية معه».
حتى الأعيان المغاربة كانوا يرون في المهدي المنبهي وزيرا في كل الوزارات، حتى قبل أن يصبح وزيرا مغربيا بشكل رسمي. تنبأ له أعداؤه بأنه سيصبح بصلاحيات أكبر من صلاحيات الوزير منذ اليوم الذي أرسله فيه الحاجب القوي، باحماد، لكي يوصل رسالته إلى ابن المولى الحسن الأول. وعلموا أن المرض وحده أقعد باحماد عن أداء مهامه السياسية داخل الدولة، وفطنوا إلى أن المهدي المنبهي، الذي كان مجرد صبي داخل داره، سيصبح انطلاقا من ذلك اليوم خليفة باحماد، الذي سيدخل القصر في أي وقت يشاء دون الحاجة إلى إذن بالدخول.
عندما تم تعيين المهدي المنبهي وزيرا للدفاع، كان الأمر بالنسبة إليه إشارة إلى أن أيامه في السلطة قد شارفت على نهايتها، في حين كان أعداؤه يظنون أنه ازداد قوة. فقد كانت الأخبار تقول إن القصر أراد امتحانه في مواجهة التمردات التي كانت تقع في ذلك الوقت والتي كانت تهدد استقرار البلاد. وعندما تم إسناد وزارة الدفاع إليه بعد أن نجا من محاولات تنحية كثيرة، فإن أمر بقائه في مربع القصر رهين بقضائه على الثورات التي ظهرت في المغرب سنة 1906 وما بعدها. وهي المهمة التي كانت شبه مستحيلة. وكما كان متوقعا فقد فشل المهدي المنبهي في مواجهة الثورات وانتهت أيامه، فجمع أغراضه ورحل إلى طنجة ومنها إلى خارج المغرب في وقت لاحق.
يقول لاورنس هاريس في مذكراته المثيرة، أثناء تزامن وجوده في المغرب مع نهاية المهدي المنبهي، متحدثا عن فترة انتقال الحكم إلى المولى عبد الحفيظ: «كان مولاي عبد الحفيظ متوترا، ويضع نصف ثقته فقط في ألمانيا. كان يتوجب علي أن أسعى إلى طمأنة البال المتردد وغير الواثق للسلطان. في ذاك الوقت، لم يكن لديه شخص ليتحدث إليه بحرية وعفوية في الموضوع. كان محاطا من كل جانب بأناس ينتظرون أول فرصة لطحنه وسحقه. كان يعلم جيدا أن الرجال الذين عينهم بسرعة في المسؤولية ضعفاء ولا يفقهون شيئا.
الكلاوي كان في مراكش، وبالتالي فإنه لا يستطيع أن يتشاور معه، والمنبهي الذي يثق به يوجد في طنجة».
مسألة الثقة في المهدي المنبهي كانت دائما مفتاح وصوله إلى الوزارة الصورية التي اشتغل بها، والتي ميزته عن جميع وزراء الوزارات المغربية في ذلك الوقت، وكان من المرجح أن يعاد السيناريو نفسه في عهد الابن الثاني للحسن الأول، لكن مسألة فرار المهدي المنبهي إلى طنجة قطعت جميع أواصر التواصل معه، كما أنه كان زاهدا في أي تجربة سياسية مقبلة، لأنه كان يعلم أن النهاية لن تكون سارة بأي حال من الأحوال.
وزارة على بياض، مكنته من البقاء بعيدا عن الرقابة، والمزج بين صلاحيات وزير الدولة والمستشار الملكي، مستغلا الفراغ الذي يخلفه وضعه السياسي والاعتباري، في ممارسة سلطات غير محدودة، جعلت منه كائنا سياسيا متفردا، في وزارة لم تتكرر لغيره، رغم أن الكثيرين يقولون إن ادريس البصري كان نسخة تاريخية للمهدي المنبهي، لكن ما يجعل المقارنة بينهما غريبة، هو اختلاف الظروف التاريخية التي جاء فيها كل واحد منهما، واجتماعهما في خصوصيات ممارستهما لمهنة الوزير.

من كان يحاسب الوزراء والقضاة والعمال والأثرياء

يحظى المؤرخ المغربي عبد الرحمن بن زيدان باهتمام الباحثين في أرشيف القصر الملكي وخدام المخزن لقرون خلت. السر أن عبد الرحمن بن زيدان كان أكثر من مؤرخ سابق للمملكة المغربية، فقد كان بدوره باحثا غير عادي، واستفاد من منصبه للوصول إلى وثائق كثيرة تشكل أرشيفا حقيقيا للدولة المغربية وجمعه في كتابه النادر «العز والصولة».
يقول عبد الرحمن بن زيدان إن الوصول إلى المناصب في سلك القضاء لم يكن عشوائيا، وإن الدولة المغربية اعتمدت أساليب صارمة لاختيار القضاة والولاة والعمال، وكونت لنفسها نظاما قويا لمتابعة تحركاتهم وبتهم في القضايا المعروضة أمامهم وحتى طرق تدبيرهم للشأن العام.
ذكرنا أن أسرة بركاش كانت من الأسر التي صنعت لنفسها ثقلا كبيرا في الرباط. وقد أورد عبد الرحمن بن زيدان رسالة من أرشيف القصر الملكي، موجهة إلى أحد أبناء بركاش، وتعطي تصورا واضحا عن طريقة سيطرة القصر على الأعيان في القرنين الماضيين.
جاء في الرسالة ما يلي: «خديمنا الأرضى الطالب محمد بركاش أعانك الله. السلام عليك ورحمة الله وبركاته وبعد. فاعلم أن أمة (امرأة) غير تامة العقل بآسفي، ادعت أن سيدتها أضرت بها وتعلقت بنصراني اسمه كنيري واحترمت به، فوعدها بأن يعطيها ما تفك به رقبتها، ففعل ودفعته لسيدتها فعتقتها، وجعلها من جملة من له تعلق بالفرنسيين واحتماء به. ثم أعلمنا عامل آسفي بالقضية، فأجبناه بأن سيدتها حيث أضرت بها فقد أعتقها الشارع بمجرد وجود الإضرار بها، لأن الشارع لا يقر أحدا على ظلم. وأن ما فعلته سيدتها من عتقها بعد أن قبضت ثمنها لم يصادف محلا لكونها معتوقة الشرع. وأعلمناك لتخبر نائب الفرنسيين بالقضية وتقول له إن شرعنا لا يقر أحدا على ظلم وإن من أضر برقيقه يعتق عليه كرها، وإن العتق الصادر عن سيدتها لم يصادف محلا، وولاؤها للمسلمين. والله يعينك والسلام».
تاريخ الرسالة يعود إلى ما بعد سنة 1850، وتوجد نسختها الأصلية كما يقول عبد الرحمن بن زيدان في أرشيف القصر الملكي بالرباط. الرسالة كما تقول مقدمتها موجهة إلى بركاش، وهو واحد من أبناء العائلة الذي شغل مناصب في الدولة، ونجح في الخروج من جلباب التاجر لفترة.
في مصادر تاريخية أخرى، توجد إشارات إلى أن الدولة لم تكن ترغب في خلق المزيد من الأقوياء في صنف الأعيان. لأنهم كانوا يستفيدون بأسهل الطرق من الحماية الفرنسية والبريطانية، ويصبحون رغم أنهم مغاربة، غير خاضعين للقوانين المغربية، بل وتتدخل هذه الدول الأجنبية لحمايتهم من التعليمات التأديبية التي يصدرها القصر مباشرة في حقهم، وهو ما خلق أزمة سياسية حقيقية في المغرب.
الرسالة تعطي وجها صارخا للصورة التي كانت تتم بها محاسبة أصحاب الوضعيات الجديدة، حتى لو كان الأمر يتعلق بخادمة بسيطة لدى إحدى السيدات. فبعد أن حصلت من أحد الفرنسيين على المال الكافي لتشتري به حريتها وتتحول إلى سيدة مجتمع بعد أن كانت خادمة بسيطة، تأتي التعليمات مباشرة لإعادة النظر في وضعها، ما دام الفرنسي الذي منحها المال، يريدها لنفسه، وهو ما يعني خلق المزيد من المغاربة الموالين للأجانب.
أغنياء الثروة الكبار، كانوا في تلك الفترة، أي ما بين 1850 و1890، يجاهرون برفضهم الانصياع للقوانين المغربية. وكان أغلبهم مطمئنين إلى أن الكفة قد رجحت لصالح الأجانب، لذلك كانوا حريصين على حيازة الامتيازات التجارية عوض البحث عن مصلحة البلاد أولا، رغم أنهم كانوا يتوفرون على رؤوس أموال تشكل جزءا مهما من الاقتصاد المغربي وقتها، علما أنه كان مهددا بالشلل في أكثر من مناسبة.

هكذا صنع أغنياء الرباط نفوذهم السياسي بالمال

في الوقت الذي كان فيه الجراري وآخرون يخططون للبقاء أطول مدة في مناصبهم التي وصلوا إليها بعد المرور من مسارات علمية لم تكن متاحة لغيرهم في ذلك الوقت، حيث كانت بعض العائلات تتوارث القضاء وما يؤهل للوصول إليه من علوم، كانت عائلات رباطية أخرى قد اختارت طريق المال لتصنع لنفسها مكانة كبيرة، ضمنت لها قوة سياسية حتى لو لم يستفد أبناؤها من التعيينات المخزنية في مناصب العمال والقضاء.
في سنة 1951، كان المغرب يعيش مجاعة كبيرة، وكان تجار رباطيون، على رأسهم بوعبيد الحصيني الرباطي والمكي بريطل، يستغلون فترات المجاعة لمضاعفة ثرواتهم المالية بشكل صاروخي.
بالنسبة لعائلة بريطل، فقد كان أحد أبنائها، وهو الهاشمي بريطل، مستقرا في منطقة جبل طارق، وكان يتكلف بتأمين نقل السلع من وإلى المغرب، وهو ما ساعد العائلة على القيام بصفقات تجارية كثيرة واحتكار أنواع محددة من السلع.
عندما اجتاحت مجاعة 1851 المغرب، كان الهاشمي بريطل قد أرسل من جبل طارق، إلى شريكه وابن عائلته، المكي، 1178 كيسا من القمح، في وقت كان فيه القمح مفقودا في البلاد، وهو ما أتاح للعائلة أرباحا كبيرة، لأن الحمولة تزامنت مع المجاعة والارتفاع الصاروخي لأسعار القمح بالمغرب.
هكذا ساهمت الأزمات السياسية والاقتصادية بالأساس في صناعة ثروة بريطل. ويذكر كتاب «الرباط وأعيانها خلال القرن 19»، كيف أن الهاشمي بريطل قد توصل من شريكه المكي بريطل بحمولة مهمة على متن سفينة تسمى «كورو روز» بأكياس محملة بالقطع النقدية، بلغ عددها 6000 قطعة نقدية من قيمة 5 فرنكات، وهو ما كان يعتبر وقتها ثروة كبيرة، تم تأمين نقلها إلى جبل طارق عبر تلك السفينة.
عائلات أخرى صنعت ثروات مالية كبيرة عن طريق ممارسة التجارة ودخول نادي الأعيان، رغم أنهم كانوا بعيدين عن السياسة، لكنهم أحسنوا استغلالها في مجال الثروة. من بين هؤلاء، نجد عائلة بركاش، التي صنع أفرادها لأنفسهم اسما عائليا رنانا في الرباط. حيث كان لديهم ابن قضى شبابه كاملا في التنقل بين المغرب ولندن لعقد الصفقات التجارية. هذا بالإضافة إلى عائلات يهودية رباطية كانت هي الأخرى تضمن لنفسها وزنا كبيرا في عالم الأعمال والمال بالمغرب، من بينها عائلات سلمون بن زكري ومسعود العسري وآخرون..

قصة التاجر الذي تاجر بأموال الدولة وأرجع الأرباح مقابل سيطرته على صادرات المعادن
في كل الفترات التي مر بها المغرب من أزمات اقتصادية، كانت الدولة تحتاج إلى التجار الأغنياء لإنعاش عجلة الاقتصاد حتى لا تتوقف عن الدوران.
ما بعد سنة 1850، كانت الدولة في حاجة إلى الأغنياء لتجاوز أزمات اقتصادية خانقة، لكن أغلب هؤلاء كانوا على علاقات مع الفرنسيين والبريطانيين وفضلوا البحث عن مصالحهم التجارية الخاصة، عوض الانخراط في إصلاحات الدولة وأداء الضرائب بانتظام، وهو الأمر الذي شكل موضوع تهديدات مكتوبة توصل بها بعض التجار من عمال ووزراء في الدولة، يحثونهم فيها على أداء ضرائبهم وتسديد بعض الديون التي أخذوها من الدولة بفضل علاقاتهم، وامتنعوا عن إرجاعها في ما بعد.
بالمقابل، كان هناك تجار آخرون أمثال مصطفى الدكالي، سهلت له الدولة عبر ظهير شريف، مأمورية التجارة والتنقل، في مقابل إنعاش الاقتصاد وعدم احتكار المواد التي تشكل أهم متطلبات المغاربة في ذلك الوقت.
لكن المشكل، حسب ما ورد في كتاب «أعيان الرباط»، أن هؤلاء التجار الموالين للدولة، أصبحوا يحسون أنهم فوق المخزن، ورفضوا في حالات كثيرة أن ينصاعوا للتعليمات وتأخروا في تسديد ديون، رغم حصولهم على امتيازات في التسديد كنوع من الاستقطاب.
لكن نموذج التاجر، مصطفى الدكالي، كان مختلفا عن الأغلبية. ذلك أنه كان يشتغل لصالح الدولة المغربية وبأموالها، ويعقد الصفقات، وقد راكم أرباحا نال بعدها رضى القصر. لم يكن الدكالي يتأخر في دفع الأرباح التي راكمها لخزينة الدولة، وكانت دفوعاته وحدها تحل أزمات كثيرة كدفع أجور الجنود، أو تمويل بعض الحملات التي كانت توجه إلى أماكن التوترات.
الدكالي لم يكن ساذجا، فقد كان يعلم أن الالتزام بتسديد أرباح الدولة للخزينة بعد الاتجار بأموالها، وليس من ماله الخاص، من شأنه أن يفتح له أبوابا أخرى للاستثمار، وهكذا تمكن الدكالي من الولوج إلى عالم الاستثمار المعدني في وقت مبكر من تاريخ المغرب.
وهكذا كان الدكالي أول من احتكر الاستثمار في معدن القصدير، الذي كان يُستخرج من مدينة الفنيدق، بعد أن استفاد من «رخصة خدمة المعدن» لعشر سنوات، بالإضافة إلى أنه حصل على إمكانية تسويق المعدن عبر موانئ المغرب الشمالية، وبالتالي تسهيل تصديره إلى أوربا. وهذا ما كان يعني أنه كان يمسك لوحده بجزء مهم من اقتصاد المغرب وفي عز الأزمة، وهو ما ضمن له بالمقابل أن يتقوى أكثر من الوزراء وخدام الدولة الذين كانت لهم صلاحيات واسعة.. لكنها لم تخول لهم السيطرة على مصادر المال ومنابع الثروة، وبالتالي كانوا مجرد رجال سلطة أمام واحد من رجال المال كالدكالي..

عندما عُين الجراري عاملا على الدار البيضاء والجديدة لأربعين سنة
بعيدا عن الحياة الاستثنائية للوزراء الذين صاروا مشاهير، بفضل بروزهم في صورة القصر الملكي، مر مسؤولون مهمون في دواليب أهم الوزارات المغربية، القضاء والداخلية والمالية، لم يعرفهم أحد ممن سلطوا الضوء على حياة المهدي المنبهي، أو المقري في عهد محمد الخامس، ثم أوفقير والدليمي وإدريس البصري في عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
في كتاب في بعض الوثائق التاريخية النادرة التي تناولت أرشيف التعيينات في وزارتي العدل والداخلية خلال القرن 19، توجد إشارات إلى اسم «الجراري»، وهي كنية عائلة من الأعيان الذين استقروا في الرباط، ومروا عبر دواليب التعيينات، وتركوا بصمة كبيرة في عالم المناصب.
في كتاب نادر يحمل عنوان «مجالس الانبساط»، وصف صاحبه محمد بن علي دينية، القائد محمد الجراري بأنه كان من الفضلاء والوجهاء والأعيان. في سنة 1850 كان قد وُلي عاملا على الدار البيضاء وبقي في منصبه 25 سنة. وبعدها عُين عاملا على الجديدة، وبقي في المنصب إلى أن وافته المنية سنة 1890. وتقول بعض المراجع التاريخية إنه لولا انقضاء أجله فإن الدولة لم تكن تفكر في استبداله حتى مع تقدمه في السن، والسر لم يكن كامنا في إمساكه بزمام الأمور، بقدر ما كان راجعا إلى انتمائه إلى النواة الأولى التي شكلت خريطة المسؤولين المغاربة، ولم يكن مطروحا أبدا استبدال اسم الجراري لأنه كان مقربا جدا من الذين كانوا يرسمون الخريطة السياسية أيام الحسن الأول، حتى قبل مجيء المهدي المنبهي إلى السلطة. ولم يكن من السليم أن تغامر وجوه السلطة في ذلك التاريخ، بتغيير أسماء مثل «الجراري» في القضاء والداخلية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى