الرأي

أمريكا التي لا تتغير

هل ثمة سوابق بخلافات مغربية – أمريكية، يمكن العودة إليها لفهم سياق تطورات عديدة؟ الجواب: نعم وبالتأكيد. ولم يكن الموقف من تطورات ملف الصحراء بعيدا عن ملامسة هذه الوقائع. ليس لأنه يشكل الجانب المرئي في جليد الثلج، ولكن لأن طابعه الاستراتيجي والمصيري ألقى بظلاله على محور هذه العلاقات. تارة في صورة تذبذبت وأخرى عبر الإعلان عن الدعم، وثالثة تسبح بين الحالتين.
كنت سألت الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في مؤتمر صحفي في البيت الأبيض، عن آليات ومجالات ترجمة التفاهمات الاستراتيجية القائمة بين بلاده والمغرب إلى الواقع الملموس. وتدخل الملك الراحل الحسن الثاني للإشارة إلى الشطر الثاني من السؤال الذي كان كلينتون أغفل الإجابة عنه، ورد هذا الأخير بكلام مشجع ينم عن عمق الصداقة والالتزامات المشتركة. فقد كانت فترة ولاية بيل كلينتون الأفضل على الإطلاق من بين حكم الديمقراطيين الذين سبقوه.
وإذا كان صحيحا أن مواقف الدول تنطبع بالاستراتيجية والثبات في المسائل المبدئية، فإن حظ المغرب مع حكم الديمقراطيين لم يكن دائما يميل إلى بلورة معالم الصداقة التاريخية، وخضع مرات عدة إلى استقراءات براغماتية تغلب ما تراه مصلحة أمريكية صرفة على غيرها من الاعتبارات.
وكنت سمعت من السفير العراقي في الرباط، قبل اندلاع حرب الخليج الثانية، أن فرقعات السلاح التي كانت تلوح بها أمريكا لن تزيد عن استعراض العضلات. مبررا ذلك بأن آخر صفقة أبرمتها العراق لتوريد الزرع ومنتوجات أخرى، كانت مع واشنطن. ونسي أن صفقة الحبوب لا تساوي شيئا أمام التطلعات الأمريكية لفرض هيمنتها على العالم. ولازالت أذكر أنه استدرك خلاصاته بالإشارة إلى أن أكبر حليف للولايات المتحدة كان يدعى شاه رضا بهلوي، وأنه أدخل إلى مستشفى في «بانما» من الباب الخلفي الذي كان مخصصا لإخراج النفايات والأزبال. ولم يدر في خلده أن رئيسه صدام حسين الذي حارب إيران، سيشنق ذات عيد أضحى في قصره الذي تحول جزء منه إلى محكمة وقف فيها وراء القضبان. كما جلب الرئيس أورتيغا من بلاده بعد اختبائه في سفارة، وجهت إليها القوات الأمريكية صخب الموسيقى التي لا تترك فرصة لإغماض العينين.
كافة القرائن ستدل على أن التوتر في منطقة الشمال الإفريقي انتقل بسرعة فائقة من طابعه الثنائي إلى البعد الإقليمي والدولي. فالحروب تكشف عن الأيادي التي تحركها أكثر مما تفضحه المنازلات الدبلوماسية. ومنذ حوالي أربعين سنة قال المغرب إن حيازة السلاح الأحمر «لا يمكن أن تتم دون موافقة حلف وارسو».. فقد عرفت الصحراء وقتها تجريب أسلحة من نوع صواريخ «سام» والرشاشات الأوتوماتيكية. ولم يكن تزويد العقيد معمر القذافي انفصاليي بوليساريو بهذه الأسلحة المتطورة ليتم دون موافقة الاتحاد السوفياتي آنذاك. وأكد الحسن الثاني، في تحليل الوقائع، أن هلالا يمتد من إثيوبيا والبحر الأحمر يسعى إلى التمدد شرقا في اتجاه الساحل الأطلسي، مرورا عبر ليبيا والجزائر ومالي والنيجر.. متسائلا: لفائدة من يحدث هذا التمدد ذو البعد الإيديولوجي؟
لا علينا، ففي مقابل هذه التطورات المتلاحقة اتخذت إدارة الرئيس جيمي كارتر موقفا أكثر تشددا تجاه المغرب، كان محوره حظر استخدام الأسلحة الأمريكية التي يقتنيها المغرب، خارج حدود ما قبل استكمال وحدته الترابية، انطلاقا من مرجعية سابقة حددها اتفاق العام 1960. وتتعين الإشارة هنا إلى الغضب الأمريكي الناجم عن طلب أحزاب مغربية الجلاء عن قواعد عسكرية أمريكية أثير حولها المزيد من الجدل.
استند الموقف المتذبذب لإدارة كارتر إلى صيغة يتم التعبير عنها بمفهوم توازن العلاقات الأمريكية مع كل من المغرب والجزائر على حد سواء. وبالرغم من أن الرباط لم تكن تنظر بارتياح إلى تشكيل ما عرف بـ«جبهة الصمود والتصدي» التي شقت الصف العربي إلى معتدلين وراديكاليين، فإن عدم مساندة المغرب اتفاقات «كامب ديفيد» المبرمة بين الرئيس المصري محمد أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، برعاية البيت الأبيض، خلف استياء لدى جناح داخل الإدارة الأمريكية. ما يفسر الربط الجدلي القائم في المنظور الأمريكي بين قضايا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
عندما اهتزت مكانة واشنطن الدولية، على خلفية الثورة الإيرانية التي قادها نظام الملالي في إيران، التفتت أكثر نحو الجزائر التي ستلعب دورا في حل مشكل الرهائن الأمريكيين الذين احتجزهم الحرس الثوري في مقر السفارة الأمريكية في طهران. ولم تستفق الإدارة الأمريكية إلا وقد شاهدت بأم العين الجيوش السوفياتية تغزو أفغانستان، في ظل تراجع النفوذ الأمريكي في أماكن عدة في إفريقيا وآسيا.
لم يكمل كارتر ولايته إلا وقد شعر بالحاجة إلى حدوث تغيير حقيقي في حسابات واشنطن إزاء علاقاتها مع الرباط، وكان أن سحبت إدارته تحفظاتها حيال استعمال الأسلحة الأمريكية في مهمات دفاعية، ولم يحل ذلك دون استمرار سياسة التوازن الإقليمي، فقد اعتقدت أوساط أمريكية متنفذة أن دعم الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد الذي خلف سلفه هواري بومدين، يمكن أن يحدث انعطافا في التوجهات الجزائرية، وبرزت فكرة التفاوض بين الرباط والجزائر كحل وفاقي لاستيعاب التناقضات الحادة. وإن كانت تقارير استخباراتية في حينها، مالت في اتجاه مغاير، ولم تبدأ تحولات جديدة في الموقف الأمريكي إلا بعد مجيء الرئيس رونالد ريغان الذي راهن على تقوية المغرب كعنصر استقرار في منطقة الشمال الإفريقي.
والبقية متداولة على كل لسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى