شوف تشوف

الرأي

أم العجائب في تونس

لم تعد تونس بلد الاستثناء العربي فحسب، ولكنها صارت بلد الأعاجيب السياسية أيضًا. صحيح أنه بالمعايير النسبية فإن إفلات تونس من المقصلة التي نصبت للربيع العربي في أجواء «تسونامي» الثورة المضادة المخيمة يرتقي إلى مستوى الأعاجيب، إلا أنها شهدت هذا الأسبوع حدثًا آخر يُرشح لأن يصبح «أم الأعاجيب» في العالم العربي. ذلك أننا نعرف أن حزب «نداء تونس» الحاكم الآن كان قد تشكل في عام 2012 بهدف تحدي «حركة النهضة» ذات المرجعية الإسلامية التي فازت بالأغلبية في انتخابات عام 2011. ولأنه كان خصمًا للنهضة فقد جذب كل خصومها من علمانيين وليبراليين ويساريين وقوميين وغيرهم. وما عاد سرًا أن الدول والتيارات السياسية المخاصمة للإسلام السياسي قدمت للنداء كل صور الدعم التي تخطر على البال، وكان الحزب واضحًا في موقفه حيث أعلن صراحة أنه يتبنى أيديولوجيا علمانية ليبرالية قومية وأنه يؤمن بفصل الدين عن السياسة، ويهدف إلى إقامة مجتمع تونسي ديمقراطي ومدني. بهذه التركيبة السياسية والروح المخاصمة لحركة النهضة خاض الحزب الانتخابات التشريعية التي أجريت في عام 2014، وحقق الفوز بالأغلبية فيها. وهو ما أزاح حركة النهضة التي احتلت المرتبة الثانية بين الأحزاب الممثلة في البرلمان وليس الأولى. وهي النتيجة التي استقبلت بحفاوة بالغة من جانب كل خصوم الإسلام السياسي في داخل تونس وخارجها. حتى تحدثت بعض التعليقات عن غروب شمس حركة النهضة ودخول تونس في مسار إقصاء الإسلام السياسي وهزيمته، في تكرار لما جرى في بعض الدول العربية الأخرى. ولأن حزب النداء يفوز بالأغلبية المطلقة، إذ حصل على 89 مقعدًا في البرلمان الذي يضم 217 عضوًا، فإنه كان مضطرًا للتوافق مع حركة النهضة التي حصدت 69 مقعدًا. وهو ما فتح الباب للتفاهم بين زعيمي الحزبين، الباجي قائد السبسي مؤسس حزب النداء، وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي. وحقق ذلك التفاهم نجاحًا أدى إلى التوافق في انتخاب السبسي للرئاسة، وفي تشكيل الحكومة ورئاسة البرلمان. وفي ظل حنكة الرجلين وما تمتعا به من عقل ومرونة، هدأت نار الخصومة وساد جو من التفاهم سمح للتجربة أن تتواصل وأن تصمد أمام العواصف التي هبت في الداخل والضغوط التي مورست من الخارج. إلا أن التفاهم الذي تحقق أزعج دوائر عدة داخلية وخارجية كانت قد راهنت على وقوع الطلاق والانتهاء بالإقصاء. وكان غلاة اليسار في حزب النداء على رأس هؤلاء ومعهم غلاة العلمانيين. إذ ظل هؤلاء طول الوقت ضد أي تفاهم مع حركة النهضة، الأمر الذي دفعهم إلى التململ والتمرد، ثم الانشقاق والاستقالة من «النداء» ومجموعته البرلمانية، الأمر الذي أفقده الأغلبية التي أصبحت من نصيب النهضة. واتجه هؤلاء إلى تشكيل حزب جديد قاد الدعوة إليه الأمين العام السابق لحزب النداء، وهو من رموز اليسار.
في هذه الأجواء عقد حزب النداء مؤتمره الأول يوم 9 يناير الجاري. وكانت المفاجأة أن الشيخ راشد الغنوشي الذي كان خصمًا قام الحزب لإسقاط حركته دعا إلى حضور المؤتمر وقام بمخاطبة أعضائه. وقد وقعت على وصف للقاء كتبه الصحفي التونسي المستقل صلاح الدين الجورشي ذكر فيه ما يلي: «هناك مسألتان لفتتا أنظار المراقبين وأثارتا ردود فعل واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي. الأولى الاستقبال الحار الذي حظي به رئيس حركة النهضة من قياديي حزب نداء تونس وقواعدهم. والأكثر إثارة الحفاوة الكبيرة به من النساء المشاركات، حيث حظي الشيخ بترحيب خاص من عضوات عديدات لم يكتفين بمصافحته، وإنما أيضًا بأخذ كثيرات منهن صورًا معه، ما جعل بعضهم يعلق بالقول «إن نساء تونس سقطن في شباك الغنوشي». وهذه المسألة ليست بسيطة لأن السبسي مدين لمليون امرأة أوصلته إلى رئاسة الجمهورية بسبب الخوف من حركة النهضة. وهذا يعني أن الغنوشي نجح بالمرحلة الأخيرة في أن يستعيد ثقة كثيرات منهن، بمن فيهن كوادر عليا ومتوسطة في حزب نداء تونس العلماني والليبرالي، الأمر الذي دفع بأحد قادة الحزب إلى تقديم استقالته في اليوم نفسه. وفي مداخلته قال الغنوشي لأعضاء المؤتمر إن هناك تونسيين يريدون التخلص من تونسيين آخرين «بإقصائهم»، في حين أن تونس بحاجة إلى كل أبنائها. وعبر عن سعادته بوحدة وقوة حزب النداء، وقال إنه متأكد من أن السبسي سعيد أيضًا بحركة النهضة موحدة وقوية» (العربي الجديد ــ 12/1).
كان المشهد حميميًا بصورة مدهشة. وبمعايير زماننا فإنه ينتمي إلى عالم الأعاجيب السياسية، التي لا ترفض فيه الطبقة السياسية في بلادنا فكرة المصالحة فحسب، ولكن أغلبها بات يؤيد الصلح مع إسرائيل ويرفض مصالحة أشقاء الوطن!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى