الرأي

أولاد الخيرية

قبل أن تقتحم الجرافات مقر خيرية عين الشق بالبيضاء، وتعبث بالبناية التي أطعمت كثيرا من رجالات هذا الوطن من جوع وآمنتهم من خوف، في شهر رمضان الماضي، كانت حافلة للنقل سباقة إلى اقتحام هذه المؤسسة بعد أن فقد السائق السيطرة على فراملها، ولولا الألطاف الربانية لقامت الحافلة بصلة الرحم مع أولاد الخيرية الذين نجوا من الفاجعة.
رفع نزلاء هذا المرفق الاجتماعي شعار «صامدون» ورددوا النشيد الوطني والأدعية والابتهالات، وشتموا لوبيات العقار وأزلامهم، واستظهروا ما علق في أذهانهم من أشعار أحمد فؤاد نجم، فاختلطت في ذروة الغضب الساطع بموشحات مدرجات الكرة، لكن ليس للجرافات والكاسحات قلب أو وجدان.
استيقظ أولاد الدار على صوت الإنزال الأمني وتحركات الكاسحات نحو خيرية ثكلى، هرعوا إلى البوابة الرئيسية وقرروا منع السلطة من ممارسة هواية الزحف على البنايات المهملة، سألوا ضابطا ما الخطب فتقمص دور الصحاف وأعلن قرب سقوط الخيرية في يد الجيش النظامي وتمشيط آخر معاقل اليتم والخصاص.
وفي الوقت الذي كانت جرافات الولاية تخترق جدار الخيرية، كان والي جهة الدار البيضاء يستمع إلى عرض حول إحداث الوكالة الجهوية لتنفيذ المشاريع لجهة الدار البيضاء- سطات، ويناقش سبل تحسين الخدمات الاجتماعية في المنطقة، وهو يتابع، عبر رسائل نصية، أخبار مداهمة مرفق خيري لطالما لجأت إليه السلطة لحل إشكالات الفواجع التي تداهمها، فتفتح بناياتها لإيواء مؤقت لضحايا الفيضانات والزلازل وسقوط المساكن والإفراغ التعسفي، وتستقبل هواة تنظيم موائد الإفطار الرمضانية.
كانت السلطة تستنفر أعوانها كلما زار مسؤول كبير خيرية عين الشق، فتجبر الأيتام على رسم ابتسامة مستعارة على محياهم، وتسمح للمربين بتدفئة قفا كل من سولت له نفسه الأمارة بالسوء التمرد على لحظة فرح عابر ينتهي بانسحاب المسؤول والوفد المرافق له، لتعود الخيرية إلى عادتها القديمة.
غابت المقاربة الاجتماعية في تدبير ملف أبناء خيرية عين الشق الذين لا عائل لهم، وحضرت المقاربة الأمنية، بعد أن أفلست مقاربة «جبرية» غريبة عنوانها «التدويرة مقابل الإفراغ»، وهو المقترح الذي حمله كبير مفاوضي السلطة، دون أن يجد له صدى في نفوس شباب جرب الهجرة السرية والعلنية، ومارس اللجوء الإنساني قبل أن يختار الإقامة الجبرية بين الجدران الرطبة للخيرية.
يتابع كثير من أبناء خيرية عين الشق الأولون غارة المخزن كما يتابعون أخبار إغلاق معبر رفح، يتأسفون باستحياء ويلعنون سرا سائقي الجرافات، لكنهم لا يجرؤون على مساعدة أشقائهم في رضاعة حليب المساعدات الأمريكية، لأنهم منشغلون بحفلاتهم التنكرية.. أعرف بعض خريجي دار الأطفال الذين بلغوا من «الكبر» عتيا، وأسمع حكايات اقتناء بعضهم لملفاتهم الشخصية وانتشالها من أرشيف المؤسسة كي يقطعوا الصلة مع أيام الفقر والنشاط، ويعلنوا براءتهم من اللباس الكاكي الموحد والنعال البلاستيكي الموحد ثم تقليعة الحلاقة الموحدة، ومنهم من تعامل مع مروره هناك كـ«ترانزيت»، عابر، أو طلاق خلع معفى من النفقة. إنهم لا يلتفتون إلى الوراء ولا يتفرجون في صور الأمس التي تحرك بركة الجفاء الراكدة، ويتحاشون المرور بالقرب من الخيرية كي لا يحرجهم أبناؤهم بسؤال الهوية.
يبدو أن أيادي خفية تسعى إلى هدم مفهوم الجمعية الخيرية الإسلامية بمعول الحداثة، ومنح تسمية أخرى لهذه المرافق، من قبيل دار الطالب أو مؤسسة الرعاية الاجتماعية، لدعوى الحمولة القدحية للخيرية، لكن واقع الحال يكشف عن وجود نية الإبادة حتى يسهل الدوس على آخر معاقل الخير والإحسان العمومي. لكن أم المفارقات وأكثرها قساوة على قلب النزلاء، هو وقوف المكتب المسير للجمعية الخيرية في صف الجرافات، وإصرار «فاعلي الخير» على اتهام النزلاء باحتلال مرفق عمومي، وتحريك مسطرة المتابعة القضائية.
في يوم الاكتساح، اكتشف سكان خيريات الدار البيضاء أنهم مجرد عابري سرير ومائدة مطعم، فتضامنوا مع زملائهم بدعواتهم تارة وبعبارة «جيم» على تدويناتهم تارة أخرى، أما خيرية البنات فعاشت أقسى حالات الارتباك، لأن الجرافات اخترقت جدار الخيرية الأم في ذروة الاستعداد لتخليد اليوم العالمي للمرأة.
«وأما اليتيم فلا تقهر».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى