الرئيسية

أين البحر؟

محمد الأشهب
كاتب و صحفي

في طريقه إلى قصر الصخيرات، تعمد الحسن الثاني أن يسلك الممر الساحلي الذي يبدأ من جنوب غرب العاصمة، عبر مدار يتراءى منه البحر ذهابا وإيابا. تختلط الأزمنة إذ تمضي فترة أطول لم يقطع فيها المرء الدروب نفسها، ولم يتوقف عند الزوايا ذاتها. لكن الصيف يحرر النفوس التي تهرب منه إلى المصطافات والمنتجعات.
تتغير أحياء المدن وشوارعها ودكاكينها وروادها.. ترحل معالم يسطو عليها الجشع والربح وتحل مكانها عمارات ومتاجر ومطاعم الوجبات السريعة. لكن البحر لا يغير موعده وزمجرته، تُهد الجبال وتنمحي الشعاب وتتقلص الغابات، ويبقى البحر بحرا في بلاغة الشعر والواقع. وحدها الأساطير وحفريات التاريخ والجيولوجيا تتحدث عن بحور يبست وحيوانات انقرضت وقيم تهاوت.
علامات الطريق تبقى فارقة، وما بين الرباط والصخيرات هناك البحر الذي قالت المطربة الشعبية الحاجة الحمداوية إنها «تحرسه كي لا يرحل»، في تعبير مجازي رائع. يرحل الليل والنهار في تعاقبهما ثم يعودان، بينما الإنسان لا يعود من رحلة المنفى الأخير. هناك بنايات نبتت حول خصر المدينة تشرئب إلى مناخ نسجت حوله وصفات طبية من عطاء الطبيعة.. لكن أين يبدأ الساحل وأين ينتهي؟
في الأذهان والخلفيات يفعل المثل القائل: «الباب الذي يأتي منه الريح أغلقه لتستريح» مفعوله. إذ أقام المغاربة السجون والمقابر والأضرحة قبالة البحر، يوم كانت تأتي منه الغزوات والحروب. وفي المشاعر والأحاسيس أن الهروب إلى البحر يكسي الأجساد ألوانا متجددة ويمدها بطاقة الشمس التي باتت في طريقها إلى استبدال مصادر الطاقة الأخرى، في تحريك العربات والصناعات الخضراء التي تناهض التلوث.
حدق الحسن الثاني إلى يمينه، كان يريد لعينيه أن تندمجا مع شعاع الشمس وزرقة البحر. وما وجد غير علب إسمنتية ترامت في اتجاه البحر، لا تحجب الرؤية فقط، بل تنقل تشوهات عمرانية إلى حيث يهرب الناس من حر الصيف. تساءل بغضب: أين البحر؟ كانت بنايات غمرت سواحلها إلى حد التخمة، ولم يعد يظهر منه إلا رائحته التي تأتي من بعيد. وكانت الفترة التي انقطع فيها عن استخدام الطريق الشاطئية كافية لإحالة رمال البحر ومنظر غروب شمس الأصيل إلى مجرد ذكريات. زحف البناء شراهة لا يضاهيها غير تشكيل لوبيات عقار الرمال الذي أصله أنه لا يباع ولا يشترى.
في خطبة طارق بن زياد أن البحر والعدو حتما إحراق سفن العودة والتقدم إلى الأمام. وفي سؤال أحفاده أن البحر لم يعد مشاعا بين الجميع. اقتطع منه أشخاص متنفذون جزرا وبحيرات، وأقاموا حولها مساكن فخمة تحظر العبور من الطريق على غير المقيمين. لم يكفِهم أنهم حولوا المدن إلى إقطاعيات تفرق بين أوضاع المدينة الواحدة. إذ تمتد الفوارق شاسعة في البناء والخدمات وتعبيد الطرقات، وتترك لفقراء المدن ما تيسر من أحزمة البؤس والحرمان. وانتقلوا إلى الشواطئ، يقتطعون من الأملاك البحرية ما شاء لهم من مساحات.
تساءل الحسن الثاني: أين البحر؟ وقبل أن يتلقف الجواب انتشرت جرارات ورافعات تهوي على «البناء العشوائي» الفاخر. وحبس متنفذون أنفاسهم من أن يطولهم الحساب. وتذرع آخرون بأنهم حازوا تراخيص شفوية لا تقل عن توقيعات الأوامر التي لا ترد. كان الردع قويا في لحظته، وردد العارفون أن الغضب لن يطول، وأن الملك الراحل ليس في وسعه أن يدقق في كل بناية أو قطعة أرض. وفي الأعراف أن الحملات التي لا تستند إلى مرجعيات قانونية وتنظيمية صارمة، سرعان ما يتبخر مفعولها في الهواء، كما مياه البحر التي تصعد بخارا إلى فوق.
ذات المكان بعد فترة، كان الحسن الثاني في طريقه إلى قصر بوزنيقة. رأى عند مدخل المدينة أكثر من مصنع للمواد البلاستيكية والفلين المستخرج من أشجار الغابات المجاورة، أبدى انزعاجه حيال الظاهرة، وقال بما يفيد أن فضاء بوزنيقة يعتبر مكملا لمدينة ابن سليمان ذات المناخ المتميز، وأصدر أمرا يقضي بحظر إقامة أي مصانع ينجم عنها ما يلوث ذاك المتنفس الطبيعي. ومن وحي الحرص ذاته نشأت فكرة بناء حزام أخضر يفصل بين الرباط وبلدة تمارة، قبل أن تصبح مدينة كبرى تعج بمئات الآلاف من الساكنة الفارين من غلاء الكراء والعقار.
لكن مخترعي سياسة حجب الحقائق، ذهبوا إلى ابتكار بناء الأسوار التي تطوق مدن وأحياء الصفيح، خصوصا تلك التي ترعرعت بمحاذاة الطرق الرئيسية. وإنه لأمر يدعو إلى الاستغراب أن تكون المعابر التي يسلكها القطار داخل المدن أو على مشارفها، أحيطت بدورها بأسوار لإخفاء ما تكتنزه من تشوهات اجتماعية.
قال الحسن الثاني مرة إنه يقيس مستويات عيش الساكنة بالنظر إلى أسطح المباني التي تضم آلات التقاط البث التلفزيوني. ولم يكن اختراع الأسوار ليحجب الواقع، تماما كما أن ردم فيلات وبنايات لم ينه ظاهرة احتلال الأملاك البحرية التي صار لها رواد وزبناء وجمعيات، مع أن القانون صريح في حظر البناء. فيما الاختصاصات والصلاحيات التي آلت إلى قطاع البيئة لم تسعف في وضع حد للظاهرة، طالما أن هناك مستفيدين يعتبرون فوق المساءلة والقانون.
أين البحر إذن؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى