الرأي

اعرف نفسك

يقول أحد العلماء «لا يمكنك أن تعرف نفسك إلا عند اختيار حر»، بمعنى أنه لا يمكنك اكتشاف كنهك إلا إذا تحررت من كل المؤثرات المسلطة عليك: سلطة المجتمع، سلطة القانون، سلطة الأعراف والتقاليد، سلطة الأم والأب، سلطة رب العمل، سلطة الزوجة.. فيكون اختيارك حينها بعدما تخلصت من كل هذه السلط هو أنت نفسك، اختيار يجسدك أنت، حينها فقط قد تستطيع أن تدرك حقيقتك!
من منا لم يقف حائرا بين إن كان ما ينتجه من أفكار وأعمال هو عبارة عن تجسيد لذاته الباطنة أم لأنه مجبر فقط، هل ما يقوم به وما يفكر فيه يصدر عن ذاته، أم أنه يتبنى كل ذلك نظرا للضغوط التي تحيطه وللعادات التي يجب احترامها وللقانون الذي يمنعه من اختيار ضدها.
فنحن عندما نترعرع داخل مجتمع تحكمه الأعرافك الآبائية والقوانين القديمة والحديثة، نتأقلم معها ونطوع تصرفاتنا انسجاما معها حتى لا نكون بدعا من الناس.. لكن هل يا ترى إذا تم وضعنا في مجتمع آخر في مكان آخر مع قوم آخرين، هل ستكون اختياراتنا وأفكارنا هي نفسها، أم أننا سنأقلم أنفسنا من جديد ونطوعها لنجعلها تلبي حاجيات السلط الجديدة المتحكمة فينا؟! ببساطة.. هل ما نحن عليه هو حقيقتنا، أم مجرد قناع نضعه لكي ننسجم مع الوضع الراهن والسلطة الغالبة؟!
هي تضع الحجاب، ومنذ الصغر وقد نشأت عليه، ثم تنتقل إلى دولة أخرى لاستكمال دراستها، وعندما تتحرر من سلطة الأب ومن قانون البيت تقوم بخلعه على الفور، رغم أنها قد تكون أمضت سنوات طويلة ترتديه، تكتشف متأخرة أنها كانت تضع ذلك الخمار فقط لتلبي تطلعات السلطة المفروضة عليها، ولم تكن لا مقتنعة به ولا تشعر بأنه يجسد رغبتها الحقيقية ولا شعورها الكامن ولا تعتبره تقربا من الله ولا تضعه عن اقتناع تام، كل ما في الأمر أنها كانت منسجمة مع الجو العام الذي نشأت فيه، كل ما في الأمر أنها عاشت سنوات طويلة ملتصقة بشيء لا تعتبره منها ولا يمت لحقيقتها بصلة.. للأسف!
تمر من بين يديه أوراق تحتاج إمضاءه يستطيع بجرة قلم منه أن يختلس أموالا تغنيه، تجعله ثريا في لمح البصر، ولن يعرف بذلك أحد، ولن يكتشف أمره أحد، ولن يحاسبه ولن يسائله أحد، هو والورقة والقلم، هل سيختار أن يكون كغيره ممن يقتنصون الفرص، فيلبي بذلك سلطة الطمع والجشع البشرية، أم أن اختياره سيكون مختلفا، فيختار أن لا يفعل، وأن يكتفي بما له من أجر يسد حاجته دون اختلاس؟ وهو في هذه اللحظة قد تحرر من كل السلط التي من شأنها أن تمنعه من الاختلاس، اختار أن لا يختلس، فقط لأن حقيقته ليست كذلك، حقيقته نبيل، ولا يحتاج للقوانين الصارمة والمحاسبة الدقيقة كي يكون نبيلا، في هذا الموقف فقط يستطيع أي موظف أن يعرف حقيقة نفسه..
عند الاختيار الحر فقط، تستطيع أن تعرف إن كنت كاذبا أم لا، استغلاليا أم لا، إنسانا محترما، أم شخصا لا يتوانى عن السقوط في القذارات إذا لم تكن هناك سلطة تمنعه.
عندما تختارين أن تعملي بكل إتقان أثناء الحراسة الليلية، وأن لا تتركي مداومتك وتستسلمي للنوم.. وتفعلين ذلك بكل إرادة حرة، لا لأن رئيسك في المصلحة سيعلم بالأمر وسيهينك أمام زملائك، فأنت حينها يمكنك أن تفتخري بنبلك في تأدية مهنتك.  حينما ترفض إغراء زميلة لك في العمل وهي آسرة الجمال، مذهلة التفاصيل، لأن لك زوجة تنتظرك في البيت، ولو أنه من سابع المستحيلات أن تعرف بشيء، وأن زميلتك مستعدة لمنحك ما تريد، وسيمر الأمر دونما علم أي مخلوق، فتلجم نفسك، وتنسحب من أمامها، حينها فقط يمكن أن تطمئن لكونك إنسانا وفيا، فاضلا، لا يخون لأنه ليس خائنا وليس لأن زوجته تراقبه وتتجسس عليه، فيضطر أن يكون وفيا حتى لا ينكشف أمره.
اعرف نفسك أثناء سقوط القيود عنك.. قيود المراقبة، قيود الأعراف، قيود الطبيعة البشرية الجشعة.. حينها فقط ستعرف إن كنت فعلا وفيا، صادقا، أمينا، متدينا.. أم أنك تدعي ذلك مضطرا حتى ترضي الجو العام الذي يحيط بك!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى