شوف تشوف

الإسلاميون، اليسار والديمقراطية أو «قميص عثمان» (2/2)

عندما قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه  بمنزله، ونشبت معركة صفين بين الإمام علي ومعاوية، شعر القائد العسكري عمرو بن العاص أن معنويات عسكر معاوية محبطة، وأن فتورا يعتري أداءهم في القتال، نظرا لعدم تحمسهم لقتال إخوان لهم،  فأشار على معاوية بأن يبرز لهم قميص عثمان لكي يجعلهم يستأنفوا الحرب بشراسة.
وكذلك فعل معاوية، وما أن وقعت أعين الجند على القميص حتى ارتفعت حناجرهم بالصياح وانفجروا بكاء ونحيبا، وتحركت عواطفهم وثارت أحقادهم وأخذتهم الحمية واندفعوا إلى ساحة المعركة يقاتلون.
ومنذ ذلك الحين اكتسب قميص عثمان رمزية خاصة في التراث الديني للمسلمين لما يحيل عليه من تحريض، وعلى إثارة الفتن، فلم يعد قميص عثمان مرتبطا بإراقة دم صحابي جليل، لقب بذي النورين لزواجه ببنتين من بنات الرسول صلى الله عليه وسلم، بقدر ما ارتبط بالدهاء والمكر السياسيين وبالقدرة على تحريض جزء من الجماهير على القتال والاحتراب والعنف والتنكيل بإخوانهم بعد تصويرهم لهم على أنهم أعداء.
وهكذا صرنا منذ ذلك الحين نستعمل شعار قميص عثمان في خطابنا السياسي ونرفعه في خلافاتنا، بعدما أصبحت الاغتيالات السياسية الغامضة، التي تتم برمجتها في ظروف مفصلية من تاريخ الشعوب، جرائم بشعة تسمم المستقبل السياسي لتلك الشعوب، وترهن مستقبلها ومستقبل أبنائها، وتزرع الشقاق بين مكوناتها، لتنبت أشواك الحقد والكراهية في حقول وعيها، وتنمي الرغبة في الثأر من خصوم مفترضين.
والغريب أن الجهات المتطرفة التي تبرمج هذه الممارسات الإجرامية، تتشابه في سلوكها وفي بنيتها التنظيمية ولو اختلفت في محاضنها الفكرية، وتريد أن تجعل من جرائمها شرارة لإشعال نيران فتنة تحرق الأخضر واليابس، وتترك لهواة الصيد في الماء العكرة، وهم كثر، الفرصة للمزايدة على غيرهم بقميص عثمان الذي يتم إخراجه كلما لاحت بشائر مصالحة وطنية أو تحالف سياسي في الأفق.
وفي مشهدنا السياسي المغربي نرى كيف استغل قميص عباس المساعدي في التحريض ضد اليسار، بنبركة تحديدا، ورأينا كيف تم استغلال قميص المهدي بنبركة في التحريض ضد الدولة، وقميص عمر بنجلون في التحريض ضد الاسلاميين، وقميص محمد أيت الجيد في التحريض ضد شباب الاسلاميين.
واليوم سيكون لشبيبة بنكيران مع كامل الأسف شهيدهم الذي يستثارون بواسطته ضد القاعديين و«الكلاكلية» ودعاة البرنامج المرحلي «الدائم»، الذين يلخصون برنامجهم في شعار «عرقلة ما يمكن عرقلته»، والذين ما زالوا يؤمنون بالعنف الثوري ضد زملائهم الطلاب داخل أسوار الحرم الجامعي، وينتسبون سطحيا إلى مرجعيات الفكر الماركسي اللينيني تارة، والتروتسكي تارة أخرى، والماوي أو الحلوطي… الخ، دون أن يكونوا قد قرؤوا أي سطر من أدبيات هؤلاء، والذين يحملون المطرقة والمنجل ليس كشعارات للطبقات الكادحة من عمال وفلاحين، ولكن كأسلحة للقتل والتنكيل بخصومهم، تعوض لديهم الأقلام وكراريس الدروس.
وإذا كان مناضلو الاتحاد الوطني لطلبة المغرب منذ مؤتمر الطلاق مرورا بالمؤتمر 15 وصولا إلى مؤتمر الفشل، يؤمنون بأن «لكل حركة جماهيرية صداها في الجامعة» ويعتقدون أن الحركة الطلابية مقدمة تكتيكية للثورة، فإنهم يتحملون اليوم، بعد أن نضجت جلودهم، مسؤولية تاريخية من أجل توعية الجماهير الطلابية التي خلفوها وراء ظهورهم، بالطبيعة الديمقراطية لشعارات المرحلة اليوم، وأن يتفضلوا بخوض حملة سياسية وسط الجامعات تحت شعار «خوك أنا» على نمط حملة «ماسميتيش عزي» التي تفتقت عبقريتهم عن إبداعها والترويج لها.
هذا لأن طلبة اليوم، وفي ظل التيه السياسي والتشرذم الذي يعانون منه، قد جعلوا من حركة «التشرميل» المؤسفة حركة جماهيرية، وأوجدوا لها صداها في الجامعة، عندما انهالوا بالسيوف والسواطير على طالب في ربيعه الثالث والعشرين وأردوه قتيلا، وجرحوا طلبة آخرين لا يزالون يتلقون الاسعافات في المستشفى، وحرفوا شعار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب التاريخي الذي كان يستقبل به الطالب الجديد باعتباره «دما جديدا في شرايين الحركة الطلابية»، ليحولوه إلى شعار «طالب جديد دم جديد يسفك في رحاب الساحة الطلابية».
وهكذا بدل أن تكون جامعاتنا مجالا للبحث والتكوين الأكاديمي وللإبداع، وتخريج الكفاءات المهنية التي تنفع نفسها وينتفع بها، تحولت إلى معامل لصناعة العنف وتربية الحقد والكراهية، وتخريج العاطلين الراغبين في التوظيف بدون امتحان أو مباراة، والذين أدمنوا الاعتصام وهراوات البوليس، لذلك فليس غريبا أن تكون جامعاتنا خارج كل تصنيف أو ترتيب ضمن الجامعات العالمية، وأن يكون الخبر الوحيد الذي ينشر عنها في الصحافة العالمية، هو خبر الاعتقالات والقتل والمحاكمات.
والغريب في الأمر أن حادث اغتيال الطالب عبد الرحيم حسناوي، الذي لا يفوتنا بالمناسبة أن نتقدم بالتعازي لأسرته، التي أرسلته من أرفود ليتابع دراسته الجامعية ويحقق طموحاتها، قبل أن يعود إليها في تابوت خشبي مغلق، يأتي في سياق اعتراض مسلح لفصيل طلابي يساري على تنظيم نشاط فكري لفصيل آخر إسلامي، كان الهدف منه البحث في أرضية نقاش بين الاسلاميين واليساريين من أجل الوصول إلى الديمقراطية، بدعوى أن عبد العالي حامي الدين، الذي كان سيشارك في الندوة إلى جانب حسن طارق وأحمد مفيد، مطلوب رأسه لدى الطلبة القاعديين منذ سنة 1993 لمساهمته المفترضة في اغتيال الطالب اليساري محمد أيت الجيد الملقب ببنعيسى.
فلو أن المرحوم أيت الجيد كتب له اليوم أن يقول لهؤلاء الطلبة الذين يريدون الانتقام له بعد أزيد من 21 سنة من وفاته كلمة ثم يعود لقبره بدوار تزكي أدويلول بإقليم  طاطا، لصرخ في وجوههم قائلا: «أرجوكم أن تدفنوا قميصي إلى الأبد، ولا تقتلوني مرتين».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى