الرأي

الإصلاح الفاسد لأنظمة التقاعد

يعيش المغرب منذ عدة أشهر على وقع احتجاجات ضخمة، شملت معظم الأقاليم والشرائح الاجتماعية، رغم فئوية بعض القضايا المؤطرة لها. وجاءت هذه كنتيجة حتمية للسياسات اللاشعبية التي تنهجها الحكومة الحالية، والتي أضرت بمكتسبات حيوية ومصيرية لها علاقة مباشرة بجودة عيش المواطنين ومدى اطمئنانهم على مستقبلهم، هذا في الوقت الذي يشكو فيه الجميع من ترد خطير يشمل كل الخدمات العمومية الأساسية من صحة وتعليم وأمن وعدالة. وهكذا، خاض طلبة كلية الطب أشكالا احتجاجية كثيرة ضد قرارات وزارة الصحة الرامية إلى إلزام خريجي كليات الطب بسنتين خدمة مدنية في المناطق النائية على سبيل التعاقد، تلتها مباشرة حركات احتجاجية شعبية ضخمة بمدن الشمال احتجاجا على غلاء فواتير الماء والكهرباء، ثم الحراك الذي يخوضه منذ حوالي 3 أشهر الاساتذة المتدربون من أجل المطالبة بإسقاط المرسومين المشؤومين لوزارة التربية الوطنية والقاضيين بفصل التكوين عن التوظيف وبخفض المنحة المخصصة للأساتذة المتدربين إلى النصف. وموازاة مع كل هذا الاحتقان الاجتماعي الذي يعيشه المغرب، والذي يذكر بالظروف الحالكة التي عاشها المغرب خلال فترة الثمانينيات، تنوي الحكومة تمرير قرارا آخر يروم إنقاذ صناديق أنظمة التقاعد من الإفلاس على حساب جيوب الموظفين.
إن سيناريو ما تدعيه الحكومة الحالية بأنه «إصلاح» لأنظمة التقاعد ستكون له انعكاسات، فورية وبعدية، أخطر بكثير على مستوى وجودة عيش الموظف، من وقع المرسومين المشؤومين على الأساتذة المتدربين أو انعكاسات الخدمة المدنية الإجبارية على الطلبة الأطباء. فحسب الصيغة التي تبدو الحكومة عازمة على تنزيلها، ولو بشكل انفرادي، سيكون الموظف المغربي مع حلول سنة 2017، مجبرا على أداء مساهمات أكبر من راتبه الشهري (اقتطاع 4 في المائة إضافية من الأجرة الخامة لفائدة صندوق التقاعد) من أجل تقاضي معاش أقل بكثير مما هو معمول به حاليا عند بلوغه سن التقاعد (63 سنة بدل 60).
وهكذا سنجد، مثلا، كيف أن موظفا بدأ مشواره المهني مع انطلاق العمل بالصيغة الجديدة (2017)، واشتغل لمدة 35 سنة بالوظيفة العمومية، سيتقاضى معاشا يقل بحوالي 17 في المائة عن تقاعد موظف أنهى مساره المهني سنة 2017، وله نفس عدد السنوات من الخدمة. وإذا ما افترضنا أن الراتب الذي سيحتسب على أساسه المعاش الخاص بكل الموظفين هو 10 آلاف درهم فإن الفرق بينهما سوف يناهز الـ1750 درهما شهريا. بعد أن يكون الأول قد أدى مساهمات أكبر لفائدة صندوق التقاعد، مع ضرورة مراعاة ارتفاع تكلفة المعيشة وبالتالي، تدني قيمة المعاش بعد 35 سنة من الآن.
إننا أمام مخطط خطير، يدخل في إطار سياسة إنقاذ الصناديق وإغراق الشعب، التي تنهجها الحكومة الحالية، أسوة بما فعلت مع صندوق المقاصة وتحرير الأسعار، صندوق المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب والزيادة في الأسعار… إنه سيناريو لإصلاح فاسد يهدف إلى إفقار الموظف والمس بقوته اليومي وقوت عياله، وسيدفع تكلفته في الغالب الموظف البسيط، في مرحلة أرذل العمر، والتي تكون مليئة بالأعباء، ويفترض أن يكافأ خلالها على مجهوداته وما قدمه من خدمات للوطن، لا أن يعاقب بخفض معاشه ورفع سن التقاعد.
إن الإصلاح، وحتى يكون كذلك، يجب أن يقوم على مبادئ التضامن والتشاركية والوضوح والشفافية، لا أن يتم تمريره بشكل تعسفي، وفي ظروف ملتبسة وبأساليب يعلوها الغموض والضبابية. فقبل الشروع في وضع أي مخطط لإنقاذ صناديق التقاعد، كان لزاما، أولا وقبل كل شيء، تحديد من هم المسؤولون الحقيقيون عن إفلاسها وإخضاعهم للمساءلة والمحاسبة بدون هوادة. فمعلوم أن صناديق التقاعد خضعت لنظام تدبيري استنزافي لمواردها المالية، التي كانت تحصل من أجور الموظفين، أي من عرق جبينهم، دون أن نسمع أن أحدا قد غُرض على القضاء. معلوم أيضا أن الدولة أخلت بالتزاماتها المالية تجاه صناديق أنظمة التقاعد المدنية، بحيث لم تؤد الأقساط المتوجبة عليها لفائدة هذه الصناديق لمدة تناهز الأربعين سنة. فما هي القيمة المالية الفعلية لما تدين به لهذه الصناديق؟ ولماذا لم تطرح الحكومة الحالية سيناريو إرجاع الدولة لما هو مستحق عليها لفائدة صناديق التقاعد؟ ولماذا لم تعلن ولو عن نيتها في محاكمة كل من ثبت تورطه في استنزاف وسوء تدبيره الموارد المالية لصناديق أنظمة التقاعد؟ في ظل غياب لأي جواب عن كل هذه التساؤلات، يبقى منطق «عفا الله عما سلف» مع «الكبار» والاستقواء على الفئات الشعبية المستضعفة، من عمال وأجراء وموظفين، هو السائد لدى من وليناهم أمورنا فتجبروا علينا. لينطبق عليهم البيت الشعري القائل «أسد علي وفي الحروب نعامة».
إن خطة الحكومة لإنقاذ أنظمة التقاعد تنبني على أسس فاسدة ومجحفة، وبالتالي لا يمكن نعتها بالإصلاحية. وإن هذا الأمر سيكون له وقع أكثر وطأة على مستقبل السلم الاجتماعي بالمغرب وينذر بحراك أكبر من هذا الذي يخوضه الأساتذة المتدربون حاليا، مقدمين لنا الدروس في النضال والصمود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى