سري للغاية

الجابري: «هؤلاء كانوا يرون في سير محمد الخامس مع تيار الاتحاد الوطني وحكومة عبد الله إبراهيم خطرا على مصالحهم»

عشرون: عملية جراحية بسيطة تغتال مستقبل المغرب
أما بالنسبة لأفراد المؤسسة الملكية وحاشيتها و«أهل دار المخزن» عموما، فالأمر يختلف. لقد كانوا يرون في سير محمد الخامس مع التيار الجديد المتمثل في الاتحاد الوطني وحكومة عبد الله إبراهيم خطرا على مصالحهم وطموحاتهم. ولذلك كان يسهل استعمالهم من الأطراف الثلاثة (المصالح الاستعماري، القوة الثالثة، الأغنياء الاستقلاليون) التي تواطأت، كما قلنا، ضد هذا التيار التحرري. وأهم أفراد المؤسسة الملكية التي وقع التركيز عليها من طرف هؤلاء هو ولي العهد. لقد أفهموه أنه إذا كان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لا يشكل خطرا على الملك محمد الخامس، فهو يشكل الخطر كل الخطر عليه هو حينما يصير ملكا. ولذلك يجب القضاء على «الخطر» الآن، وذلك بحمل الملك محمد الخامس على التخلص منه قبل فوات الأوان. ومن هنا كانت المعركة السياسية تتلخص في ذلك الوقت حول شخص محمد الخامس، من سيكسبه إلى جانبه؟ وكما شرحنا في الكتاب سابقا فقد استعمل خصوم الاتحاد كل الوسائل للدفع بولي العهد إلى الضغط على أبيه بمختلف الوسائل لإقالة حكومة عبد الله إبراهيم. وفعلا نجحوا في ذلك وتشكلت حكومة على رأسها الملك نفسه ينوب عنها في رئاستها ولي العهد. وما هي إلا شهور حتى أدرك محمد الخامس خطورة الاتجاه اللاوطني اللاشعبي الذي تشير إليه الأمور وأن المقصود الحقيقي هو تحرر المغرب واستقلاله الاقتصادي، وبالتالي مستقبل المغرب المستقل كله. لقد أدرك تماما أن ولي العهد قد وقع تحت تأثير الأطراف الثلاثة التي ذكرنا. وفي لقاء رسمي (سري) مع ممثلي قيادة الاتحاد ـ قد نذكر تفاصيله ومكانه وتاريخه في ما بعد ـ أشار الملك الراحل إلى أنه عازم بعد العملية الجراحية البسيطة التي كانت ستجرى له ـ على الرغم من تأكيد جميع الأطباء على عدم ضرورتها ـ أنه سيعيد الأمور إلى نصابها وأنه قد يعيد النظر في ترتيب بيت المؤسسة الملكية نفسه، وفي أعلى رتبة فيه. غير أن الأقدار شاءت أن ينتقل هذا الملك الوطني العظيم إلى الرفيق الأعلى خلال العملية الجراحية التي لم تقتصر آثارها على جسمه، بل امتدت على اغتيال مستقبل المغرب كما كان يحلم به هو قبل غيره، رحمه الله.
كان ذلك قمة مسلسل التحول الذي حصل، فلنعد الآن إلى بدايته، لنقف مع بعض حلقاته، من خلال ما سيتسع له المجال هنا من النصوص التي كتبناها في هذا المجال.
الفصل الثامن:
معركة الاستقلال الاقتصادي والصراع مع «المفهوم القديم للسلطة»
أولا: إنشاء بنك المغرب واسترجاع الأراضي وإصلاح الإذاعة
كان أهم عمل يمكن اعتباره نقطة انطلاق المرحوم عبد الرحيم بوعبيد في استراتيجية تحرير الاقتصاد المغربي، هو تأسيس بنك المغرب من جهة واسترجاع الأراضي التي اغتصبها المعمرون من جهة أخرى. وهكذا أعلن يوم 25 مايو 1959 عن تأسيس «بنك المغرب»، بوصفه مؤسسة وطنية للصرف والقرض وإصدار العملة، ليحل محل «البنك المخزني». كان هذا البنك قد تأسس عام 1906 ليكون دعامة من الدعامات الأساسية التي يرتكز عليها الاستعمار في بلادنا، والتي فتحت مجالا واسعا للاحتكارات الأجنبية التي تحكمت في اقتصادنا. «لذلك نظرت الحكومة منذ بداية عملها إلى قضية البنك المخزني واعتبرت أن حلها مفتاح للطريق القويم الذي يؤدي إلى الانعتاق الاقتصادي».
وفي هذا الاتجاه أيضا أنشأت الحكومة بنك التنمية الاقتصادية (22 يوليو1959) وبنك التجارة الخارجية (1 سبتمبر 1959)، كما أنها أعدت العدة لإنشاء مصنع للصلب والفولاذ في الناظور، قال عنه المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، وزير الاقتصاد، يوم 14 أبريل 1960 بأنه «سيكون بإمكانه إنتاج 250 ألف طن من الفولاذ و20 ألف طن من الحديد والمنغنيز، وأن المجموعة الصناعية لهذا المشروع تقدر تكاليفها الأولية بحوالي 30 مليارا من الفرنكات. وفي فاتح مايو من السنة نفسها أشار المرحوم بوعبيد في خطاب له إلى أن: «إنتاج الحديد والفولاذ بالمغرب يتحقق سنة 1962، وبعد عشر سنوات سيشهد المغرب مدينة صناعية كبرى كالدار البيضاء على الساحل الشمالي، حيث إن 165 ألف طن من الصفائح المعدنية ستصنع في المغرب». كما صرح في نفس الشهر بأن الحكومة تعتزم أن تجعل من ناحية آسفي مركزا للصناعة الكيماوية في مستوى عال هام، وأن معمل الفوسفاط بآسفي سيكون خطوة أخرى نحو اقتصاد وطني متكامل. وفي مجال آخر أسست الحكومة مدرسة المهندسين ومعهد تكوين الإطارات وقد وضع الملك الحجر الأساسي للمؤسستين يوم 24/10/1959.
واتجهت الحكومة إلى إصلاح الإذاعة (ولم يكن التليفزيون موجودا يومذاك) فعينت الدكتور المهدي المنجرة مديرا لها، فأعد مشروعا كان يهدف إلى إعادة هيكلة الإذاعة بالصورة التي تجعل منها جهازا يتمتع بالاستقلال المادي والمالي، وفي الوقت نفسه يخدم سياسة المغرب دون تحيز لهذه الحكومة أو تلك. وقد نص المشروع على أن يكون للإذاعة مجلس إداري يكون بمثابة «برلمان ديمقراطي يراقب أعمال المدير ويوجهها الوجهة الصالحة طبقا لما تقتضيه المصلحة العامة». وقد نوقش المشروع في المجلس الوزاري برئاسة الملك محمد الخامس وتمت المصادقة عليه يوم 20 نوفمبر 1959، ولكن وقع تجميده فلم ينشر في الجريدة الرسمية. ولما تأكد لدى الدكتور المنجرة أن «جهة ما» في السلطات العليا هي التي عملت على تجميده استقال في أوائل يوينو 1960.
ثانيا: توزيع الأراضي.. والشروع في استرجاع أراضي المعمرين
أما في الميدان الفلاحي فقد كانت الخطوة الأولى التي اتخذتها الحكومة هي توزيع الأراضي على صغار الفلاحين، وهكذا وزعت في صيف 1959 نحو 59700 هكتار على الفلاحين الصغار، ثم أرفقتها بتوزيع أكثر من 30000 هكتار. ثم تلا ذلك توزيع 2017 هكتارا في بومعيز على صغار الفلاحين. وكان الملك الراحل محمد الخامس يشرف بنفسه على عمليات التوزيع. وبدأت الحكومة في استرجاع الأراضي التي اغتصبها المعمرون، وهكذا استرجعت 42 ألف هكتار من أخصب الأراضي كانت قد اغتصبت لصالح المعمرين. هذا من جهة ومن جهة أخرى قررت الحكومة إصلاح القرض الفلاحي وإنشاء صندوق وطني وصناديق محلية للقرض الفلاحي.
ثالثا: المعركة حول التدابير الاقتصادية التحررية
غير أن المعركة بين الحكومة والاتحاد الوطني والتحرير من جهة وبين خصوم التحرر الاقتصادي الذين عرفنا بهم سابقا من جهة أخرى، كانت قد تركزت أساسا حول ما كنا نسميه: «التدابير الاقتصادية التحررية»، وكانت عملية فصل الفرنك المغربي عن الفرنك الفرنسي وما يترتب عنها من إجراءات، هي مركز تلك التدابير التي دارت حولها معركة حامية الوطيس تعرت فيها كثير من الوجوه وانكشفت كثير من النوايا والارتباطات الخارجية اللاوطنية. كان مشروع تلك التدابير قد قدم إلى جلالة المرحوم محمد الخامس للموافقة عليه بوصفه يمسك بيديه السلطة التشريعية، فكان يقوم مقام البرلمان. وهكذا ففي غياب البرلمان انتقلت المعركة إلى كسب رأي الملك. وقامت «التحرير» في هذا الصدد بحملة يومية تقريبا لشرح أهداف تلك التدابير الاقتصادية وضرورتها كأساس لتحقيق الاستقلال الاقتصادي، بينما قام الخصوم بحملة تخويفية تدعي أن اقتصاد المغرب سينهار بفصل العملة المغربية عن العملة الفرنسية.. إلخ. وقد أدى ذلك إلى تريث الملك محمد الخامس في الموافقة على تلك التدابير مدة انكشفت فيها للعموم أبعاد المعركة.
رابعا: المعركة على كسب الملك وانخراط ولي العهد في الصراع
خلال هذه المعركة الشرسة تمكنت «القوة الثالثة» التي كان على رأسها أحمد رضا كديرة الذي كان يمثل علانية المصالح الفرنسية من التأثير على ولي العهد، كما سبق القول، فانخرط في عملية «التأثير» على جلالة الملك محمد الخامس وصار يشكل طرفا مخالفا لاتجاه حكومة عبد الله إبراهيم حتى اكتسى ذلك مظهرا علنيا تجلى في عدة معطيات. من ذلك مثلا أنه عندما قرر جلالة الملك الراحل السفر إلى سويسرا للراحة وإجراء فحوص طبية، إذ كان يعاني من التهاب اللوزتين، عهد بالنيابة عنه إلى ولي العهد مولاي الحسن (يوليو 1959). وعندما قرر جلالته زيارة فرنسا انطلاقا من سويسرا تقرر أن يتوجه عبد الله إبراهيم إلى سويسرا ثم إلى باريس لإعداد الرحلة الملكية هناك، ولكن في يوم 18 يوليو 1959 أذيع خبر يقول إن ولي العهد والرئيس عبد الله إبراهيم يتوجهان معا إلى جنيف لمقابلة الملك. وقد فهم الناس آنذاك أن الأمر يتعلق بخلاف حاد بين رئيس الحكومة وولي العهد استوجب احتكام الطرفين إلى الملك الراحل. وهذا ما استغلته الصحافة الفرنسية (باري بريس، فرانس سوار، الفيغارو، لومند)، فكتبت مقالات نشرت «التحرير» فقرات منها، ومما جاء فيها: «أن خلافات واقعة الآن بين بعض أعضاء الحكومة من جهة وولي العهد، من جهة أخرى، حول القرار الذي سيتخذ في الشؤون المالية والاقتصادية». وتنبأت بقرب سقوط حكومة عبد الله إبراهيم بسبب «الخلاف القائم بين الحكومة والقصر».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى