سري للغاية

الجابري: «وكالة الأنباء الفرنسية روجت أن «التحرير» أوقفت بسبب انتقادها للملك»

كما كان منتظرا فقد قامت في أعقاب هذا الاعتقال احتجاجات في الصحافة الدولية، خصوصا أن الاعتقال استهدف مدير ورئيس تحرير جريدة مسؤولة لحزب مسؤول، له صداقات دولية متعددة، والمهدي في الخارج يوزع الخبر ويحرك السواكن. وقامت احتجاجات في المغرب من المنظمات الجماهيرية وخرجت مظاهرات… إلخ. فاضطر المسؤولون إلى بيان السبب الذي أوجب الاعتقال والتهم الأربع الغلاظ.
تهم لا يقبلها عقل. لقد كشفت عن ارتباك المخططين للمؤامرة على الاتحاد وعدم تقديرهم للأمور التقدير الصحيح. ذلك أنهم قد برروا عملية حجز التحرير واعتقال البصري واليوسفي وبنوا هذه التهم الغلاظ على ما ورد في تعليق نشر في عدد 13 كانون ديسمبر 1959 في ركن «في الصميم» ـ الذي كان يكتبه البلغيتي ويوقعه بـ«أبو نوفل»، وهو تعليق ينطلق من بيان المجلس الوطني للاتحاد الذي انعقد يوم 6 ديسمبر في دورته الأولى (شهران بعد تأسيسه) ومن الوضعية التي تتحدث عنها الجريدة كل يوم، وضعية الفساد وتحيز الإدارة… إلخ. والفقرة التي استغلت في هذا الموضوع تقول ما يلي: «وهي حالة (حالة الفساد الإداري) ألح المجلس الوطني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية على وجوب إصلاحها بتطهير الجهاز الإداري من العناصر الهدامة الفاسدة التي تعشش في أركانه لتحقيق أهداف إجرامية وعرقلة تقدم البلاد وازدهارها. فليس من المعقول بحال أن تكون الهيأة المسؤولة أولا ومباشرة على شؤون البلاد وهي الحكومة غير متوفرة على السلطة الكافية لتسيير ومراقبة الجهاز الإداري التنفيذي التابع لها قانونيا والذي يجب أن يؤلف معها كلا متضامنا لا يتجزأ لوضع مقاييس منطقية للحكم مطابقة لقواعد النظم السليمة، كما يقول الاتحاد الوطني عن حق. ويضرب قرار المجلس الوطني للاتحاد مثلا لذلك بالتناقض المشين والبارز في نظام الحكم القائم الآن في البلاد بتصرفات قوات الأمن وعدم خضوع المسؤولين فيها للأجهزة الإدارية المتبعة باتخاذها قرارات تتناقض ومقتضيات القانون بدون الرجوع إلى المسؤولين في الحكومة والمفروض فيهم مباشرة المسؤولية في هذه البلاد». ويختم صاحب الركن بالقول: «ونحن بدورنا نظن أننا لسنا بحاجة إلى ترجمة هذا التناقض إلى واقع الحياة اليومية، حيث إن الجميع يعرف ما يكابده الشعب ومنظماته النقابية وغيرها وصحافته من إجراءات تعسفية واستفزازات لا تعلم الحكومة إلا بعد وقوعها بناء على أوامر تأتي من جهات لا يخولها القانون السليم أي حق للتدخل في ما هو راجع أولا وبالذات إلى اختصاص السلطة التنفيذية التي هي الحكومة المسؤولة مباشرة أمام الرأي المغربي».
شك بعض المحررين وغيرهم في خلفية هذا التعليق، وذهب بعضهم إلى التساؤل: ألا يكون صاحبه قد استعمل من جهات معينة؟ والواقع أنه لا شيء يبرر هذا الشك ـ على الرغم من أن صاحب التعليق قد عين فيما بعد في منصب قضائي. لكنه منصب يبدو أنه كان يسعى إليه قبل شهور. ومهما يكن فإن مضمون التعليق لا يخرج عما ورد في بلاغ المجلس الوطني، فالفقرة التي يشير إليها صاحب التعليق من بيان المجلس الوطني للاتحاد قد ورد فيها بالفعل ما يلي:
«ـ يلاحظ (المجلس الوطني للاتحاد) أنه، في الوقت الذي تعمل فيه عناصر وطنية شعبية من بين أعضاء الحكومة لتحقيق الأهداف الوطنية متجاوبة في عملها هذا مع إرادة الاتحاد الوطني وأهداف ميثاقه، يتجلى في أطراف هذه الحكومة نفسها وفي الإدارة التي كان يجب أن تكون تابعة لها ومنفذة لتعاليمها نوع من الشذوذ والمعارضة والعمل لإحباط المشاريع البناءة، الشيء الذي لا يوجد له نظير في النظم المتعارفة.
ـ ويندد بهذا التناقض الذي يساعد على انتشار اللامسؤولية ويزيد في فساد الجهاز الإداري وتعفنه،
ـ يطالب بإصلاح هذا الجهاز وذلك بتطهيره من عناصر الفساد وإخضاعه للسلطة التنفيذية التي يجب أن تؤلف كلا متضامنا لا يتجزأ لوضع مقاييس منطقية للحكم مطابقة لقواعد النظم السليمة.
ـ يلفت نظر الشعب إلى تجلي هذا التناقض بصفة خاصة في تصرفات قوات الأمن وعدم خضوع المسؤولين فيها للأنظمة الإدارية المتبعة في الحكومة باتخاذها قرارات تتناقض ومقتضيات القانون، بدون رجوع إلى المسؤولين في الحكومة المفروض فيهم مباشرة المسؤولية في هذا الميدان».
إذن فما ورد في التعليق المذكور يتماشى مع منطوق ومضمون بيان المجلس الوطني للاتحاد، وإنما عمدت الجهات المعنية إلى بناء تهمها الغلاظ التي وجهتها للبصري واليوسفي على هذه المقالة لأن الهدف عندها في تلك المرحلة كان ليس الاتحاد الوطني ككل بل المقاومة والمقاومين، أي أحد جناحي الاتحاد الوطني، وكانت العملية تستهدف في المرحلة التالية الجناح الثاني: الاتحاد المغربي للشغل.
4 ـ تأويل كاذب مغرض
من أجل ذلك أعطت الجهات المعنية للتعليق المذكور مضمونا أقوى مما يحتمل، مضمونا عكسته وكالة الأنباء الفرنسية التي روجت خبرا قالت فيه إن سبب توقيف التحرير واعتقال مديرها ورئيس تحريرها راجع إلى أنها نشرت تعليقا «تضمن العبارة الآتية: يجب على الملك أن يقتصر على دوره الروحي باعتباره رئيسا دينيا ويجب عليه أن يترك الحكومة تدير الحكم كما تريد».
نقلنا هذا الخبر في الرأي العام وكذبناه، وقمنا بحملة توضيحية منددين باعتقال الأخوين البصري واليوسفي ومشهرين بالمؤامرة التي تثوي وراء هذا الاعتقال. وفي هذا الإطار كتبت التعليق التالي حول التهم الموجهة للبصري واليوسفي وقد نشر يوم 24 كانون الأول / ديسمبر 1959 في ركن «بالعربي الفصيح» الذي عوض ركن «صباح النور»، وكنت أوقعه بـ«ابن البلد» كما سبقت الإشارة.
يقول التعليق:
«تهجمات على مقام صاحب الجلالة، التحريض بارتكاب جرائم ضد أمن الدولة، القيام بأعمال من شأنها أن تخل بالأمن العام، المس بسلامة الدولة! هذه تهم كبيرة عظيمة لا أظن أن هناك في عالم التهم ما هو أكبر منها وأعظم! تهم ثقيلة لا يمكن للأذن أن تستسيغها إلا إذا وجهت ضد أكبر خائن في البلاد، أو إلى من تآمر مع الاستعمار تآمرا علمت تفاصيله واطلع عليه الخاص والعام في حينه وأثناء المحاكمة!
أما أن توجه هذه التهم الأربع الغريبة الكبيرة العظيمة الثقيلة إلى رجلين نظما حركة المقاومة والتحرير في البلاد وشاركا فيها مشاركة فعالة لإرجاع الملك من منفاه وتحقيق الاستقلال!
أما أن توجه هذه التهم الأربع إلى رجل أقلق مضاجع الاستعمار بالبلاد! إلى رجل سجنه الاستعمار غيرما مرة لأنه وطني مكافح! إلى رجل حكم الاستعمار عليه بالإعدام لأنه كان يعمل من أجل إرجاع الملك الشرعي وتحقيق الاستقلال!
أما أن توجه هذه التهم الأربع الغريبة إلى رجل لأنه كرس حياته للنضال منذ حداثته وقضى فترة شبابه، رغم علته ومرضه، في خدمة قضية الحرية في المغرب خاصة والمغرب العربي عامة!
أما أن توجه هذه التهم إلى رجل يعرف عنه إخواننا العرب الشيء الكثير كرجل مناضل من رجال العروبة المناضلين!
أما أن توجه هذه التهم إلى مدير جريدة التحرير ورئيس تحريرها، هذه الجريدة التي عرفت من أول يوم من صدورها بأنها الجريدة الوحيدة التي جعلت من نفسها، بحق، لسان الجماهير، تفصح عن آمالها وتعرب عن آلامها، هذه الجريدة التي كرست حياتها لخدمة الدولة ومشاريع الدولة البناءة، والتي لم تأل جهدا في التشهير بأماكن النقص والفساد والتعفن في كياننا كوطن ودولة، غرضها دائما الإصلاح، والإصلاح السريع! الجريدة التي ضربت عرض الحائط بجميع المهاترات التي استهدفت لها وصبرت لجميع المناورات التي حيكت ضدها، خدمة للوطن وتنويرا لعقول المواطنين!
أما أن توجه تلك التهم الأربع الغريبة الكبيرة العظيمة الثقيلة للبصري واليوسفي، فهذا ما لا نفهمه ولا نستسيغه ولا نعتقد أن أحدا يفكر قليلا يستطيع إيجاد ولو أبسط مبرر لتوجيهها للشخصيتين المذكورتين، اللهم إلا إذا كان ذلك من قبيل المؤامرات أو من مظاهر الفساد الإداري الذي شهرت به الزميلة التحرير». (ابن البلد).
بطبيعة الحال تكلف عدد من المحامين بالدفاع عن البصري واليوسفي، وقدموا طلب السراح المؤقت لهما. فقبل الطلب بالنسبة لليوسفي فأطلق سراحه مؤقتا مساء يوم 30 ديسمبر لأسباب صحية، ورفض بالنسبة للبصري.
والسبب الحقيقي الذي جعل المسؤولين يطلقون سراح اليوسفي هو الحملة الصحفية الدولية التي مارست ضغوطا كبيرة على المسؤولين على العملية. وقد دفعهم ذلك إلى مراجعة مخططهم فقالوا في ما بينهم «لقد ارتكبنا خطأ باعتقال اليوسفي لأنه صحفي ومعروف دوليا»، لذلك قرروا إطلاق سراحه والتركيز على البصري والمقاومين من جهة والاتحاد المغربي للشغل من جهة أخرى. ومع ذلك بقي اليوسفي في حالة سراح مؤقت إلى أن قررت المحكمة في شأنه عدم المتابعة بتاريخ 30 مايو 1960. فسافر إلى الخارج للعلاج ثم عاد يوم 13 يوليوز 1960 ليستأنف الإشراف على جريدة الحزب الرأي العام إلى أن توقفت بطلب من مديرها يوم 23 نوفمبر 1960 ثم استأنفت التحرير صدورها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى