الرأي

المقعد الفارغ

خلق الخير والشر منذ بداية الحياة وسيبقى تدافعهما مستمرا إلى النهاية، فانتظار خلو الساحة من الكائنات الفاسدة المفسدة للقيام بالدور المنوط بأهل الخير لن يخدم إلا الفساد والفساد لوحده، فسياسة المقعد الفارغ لا تقضي إلا على مصالح أهلها، حين يفتح خلال الانتخابات كمثال تعفف المعتدلين وعزوف المتذمرين الباب على مصراعيه أمام المفسدين ليشتروا أصواتا لا تبلغ خمس عدد الناخبين الأصلي، فيصبح الغياب والعزوف المحرك الحقيقي لتمكين الفساد في الأرض، بوقوع مصالح الجميع تحت رحمته؛ فالنظرة الطوباوية للأمور تبقي الأغلبية في قاعة الانتظار بتجميد دورهم إلى حين صفاء الجو وانقراض الكائنات الطفيلية، كشرط للمساهمة في مراقبة وتدبير الشأن العام المحلي والوطني، وهو الموقف الذي يطيل من عمر الفساد ويعمل على تقويته إلى درجة استحالة بزوغ الفجر الذي سيقضي على الظلام والظلمات.
إن الفساد الذي غطى على الواجهة لا يمثل هذه الأمة الخيرة في شيء، ولا يدل سوى عن تخلي أهل الاعتدال عن القيام بدورهم وملأ مقعدهم على الساحة، فالمبالغة في التعفف والمبالغة في النظرة السلبية للعمل السياسي والتشاؤم من الواقع ومن المستقبل خلطة مدمرة ومهلكة للبلاد والعباد؛ فلن يكفي لنصرة الخير تأييده فقط، بل الواجب بذل الجهد لخدمته قبل وبعد انتصاره في معركته الأزلية، فشتان بين التأييد المجرد وتقديم الخدمة مع الصبر في سبيل الغاية؛ إن سياسة المقعد الفارغ لأهل الخير جعلت سواد الفساد والشر يطغى على المشهد إلى أن ظن الناظر بأنها أمة فساد ومفسدين، في الوقت الذي يجب أن يقابل نشاط الفساد نشاط أكثر حيوية لخدمة الصالح العام من طرف أهل الخير، ولو بالتركيز في خدمة المجتمع المدني عند تعذر المشاركة السياسية، القطاع الذي يضمن خدمة حقيقية للشعوب بالتركيز على محاربة الأمية وتنمية القدرات والمهارات البشرية بالاستثمار في جودة الإنسان، بدون أي خلط بين الدعوة والسياسة والإصلاح، وهي المحاور التي يفيد تفريقها وفصلها عن بعضها البعض، حتى من قبل التجارب الحالية فضرر هذا الجمع ظاهر لمن توفرت له بصيرة؛ فمن حركات الدعوة من قاربت القرن من العمر، ولو أنها اختصت في خدمة المجتمع المدني، أو في الدعوة بدون سياسة، أو كحزب سياسي صرف، لنجحت فعلا في خدمة المجتمع خدمة لن تقدر بثمن.
والتجربة التركية خير نموذج في أهمية ودور المقعد الشاغر بالرغم من وجود الفرق الثابت بينها وبين غيرها، فالهدف تيسير استنتاج جوهر الفكرة وليس شكلها؛ حيث واجه تيار الإصلاح قوة العلمانية وشراسة مؤسسة الجيش ودهاء الساسة بالصبر والتأني، فلم تستعمل حركة الإصلاح هناك ورقة التمرد المدني قط، فطلبت وهي تواجه أحلك المؤامرات من المواطنين احترام القانون، وكلما أقفل القضاء حزبا فتحت الثاني وكلما فشلت قيادة في مرحلة ما أو مُنعت حلت مكانها قيادة أخرى، فلم يسجل فراغ المقعد في أي محطة من المحطات، إلى أن اجتمعت شروط استثنائية امتصت هامش المناورات المضادة لتفسح المجال لنقش هذه التجربة الرائدة في خدمة وطنها، وهي الفرصة التي لم تكن لتبلغ هذا النجاح لو مرنت هذه الحركة الإصلاحية المواطن على خرق القانون وعلى التمرد والتهور بمواجهة الرصاص بصدور عارية.
فلا خير في حركات لا تقدس دم العزل بحقنه بل تقدسه بإهراقه، ولا خير في حركة تخدم رموزها وأسمائها بالتساوي مع خدمة المشروع الإصلاحي، ولا خير في حركة تغامر بسلامة السفينة التي يركبها الجميع إلى أبعد الحدود، والحديث هنا ما هو اختياري بالضبط وليس عن الهبات الجماهيرية العفوية التي سلمت المشعل للبديل الجاهز، فكيف بالتجربة التركية لو قادتها مثل هذه العقلية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى