شوف تشوف

الرأي

الموت البيولوجي والموت الاجتماعي

أما موت الأفراد فليس من إنسان إلا وقد عاش هذه الواقعة لأفرادٍ آخرين من بني جنسه قريبين عزيزين أو بعيدين مجهولين، بل إن حقيقة الموت لنا كـأفراد لا تفارقنا يوماً واحداً، فنحن نعي أننا جئنا إلى هذه الدنيا بغير رغبة منا أو استشارة، كما أننا سنودع هذه الحياة بغير رغبة ولا استشارة. ولكننا لانستطيع أن نهضم أو نستوعب موت مجتمع ما، فلا يوجد فرد منا عاصر موت مجتمع بالشكل الذي يموت فيه الفرد، فهل يعني هذا أن المجتمع خالد فلا يموت؟ أو أنه كائن من نوع غير (بيولوجي) فيموت ككل الكائنات التي تولد فتموت؟ وإذا كانت (سنة أو قانون) الولادة والموت تطوق هذا الكائن الذي نسميه (المجتمع) وتشكل مصيره، فقد بات علينا معرفة هذا (البعد الجديد) في الحياة الإنسانية، أي تشكل المجتمع ثم مراقبة احتضاره وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وكيف يتم ذلك؟ وبأي آلية؟ وفي أي ظرف؟ وتحت أية شروط؟ (لكل أمة أجل).
اعتدل صديقي في مجلسه ثم حدَّق فيَّ النظر ملياً وقال وفي وجهه علامات اليأس والألم: إن تحليلي في غاية التشاؤم وانطباعي عن المجتمع العربي أنه قد تحول إلى جثة على طاولة التشريح فهو بحكم الميت، وفي قناعتي أنه سيندثر بشكل نهائي.
صدمت وبعمق، فهذا الإنذار المرعب (PROGNOSIS) يشكل حالةً متقدمةً حتى عن وضع السرطان، فيبقى السرطان مرضاً لا أمل في الشفاء منه، مع هذا يبقى المريض مريضاً، أي أنه مازال حياً يرزق، ولو أنه محكوم بالإعدام .
لقد مضى صديقي الدكتور في تحليله خطوة أبعد، واعتَبَرَ أن المجتمع العربي بحكم الميت مع كل مظاهر الحياة والنشاط لإفراده!! فمن أين جاء بتحليله هذا يا ترى؟؟ إنه كباحث في العلوم الإنسانية والتربوية عنده ما يكفي من المشعرات (INDEX) والدلائل والمؤشرات على وضع المجتمع، ولادة أو موتاً، صحة أو مرضاً، عافية أو اعتلالاً، لذا تقدم فطرح هذا التشخيص (DIAGNOSIS) فاعتبر الجسد الاجتماعي (جثةً) .
قلت له معقباً ومتسائلاً بنفس الوقت: إننا معشر الأطباء عندنا من المؤشرات ما فيه الكفاية على موت الفرد (عضوياً) من انعدام النبض، وتوقف ضربات القلب، وغياب التنفس، وعدم تدفق الدم بجرح الجلد، أو توقف النشاط الكهربي للقلب والدماغ ولمدة طويلة، بل حتى إن الجثة تبدأ في التغير بعد فترة، فتكون أولاً حارة لتصبح بعدها باردة، وتكون رخوة لتصبح بعد ذلك مثل قطعة الخشب المتيبسة (الصمل الجيفي)، ثم تبدأ في التعفن والتحلل، ويصبح القبر خير سترٍ لهذا القميص المتهتك، الذي يتمزق في كل لحظة.
نظر إلي صديقي الدكتور متأملاً ثم أجاب: بهذه الدقة من التحديد ليس عندي جواب؟!! مع هذا لنضع الكلام آنف الذكر تحت المجهر النقدي لنرى صموده وصلابته أمام التحليل؟!
ما هو المجتمع بالفعل؟ هل يمكن فهمه ككيان نوعي؟
لا يمكن أن نفهم (موت المجتمع) ما لم نفهم ما هو (المجتمع) بالأصل؟ فإذا استطعنا أن ندرك تكوين هذا الكائن (النوعي) أمكن لنا أن نحدد مرضه من صحته، وموته من حياته، فالمجتمع ليس مجموعة أفراد بل هو (شبكة علاقات) تنظم نشاط الأفراد، فإذا أردنا تصور (الشبكة الاجتماعية) أو (النسيج الاجتماعي) أمكن تشبيهه بالخيوط والعقد، العقدة الواحدة متصلة بالعقدة الثانية من خلال خيوط الشبكة، وبذلك فإن كل عقدة متأثرة سلباً أو إيجاباً بوضع الخيوط التي تصل ما بين هذه العقد، وتعطينا البيولوجيا مثالاً ممتازاً لهذا الوضع، حيث تترابط ما يزيد عن (100) مليار خلية عصبية (النورونات – NEURONS) في الدماغ من خلال نسيج عصبي كثيف، كل خلية مزودة بحوالي ألف ارتباط، بحيث يشكل الدماغ الذي يحمله كل فرد منا في رأسه، من زاوية الاتصالات؛ أكبر وأعقد من كل الكون المحيط بنا. وتتعاون هذه (النورونات) من خلال (نظام التحام) بين كل خلية وأخرى، تسري فيها سيالة عصبية، تعبر هذا النسيج من أقصاه إلى أقصاه، بحيث تحيل الدماغ في النهاية إلى وحدة عمل مركزية واحدة منسقة مبدعة، والنسيج الاجتماعي أي شبكة العلاقات والخيوط التي تربط بين الأفراد تتعلق أيضاً بالأفراد الذين يفرزونها، ولذا فإن وضع الشبكة المرتخي أو المشدود، المتوتر أو المسيَّب، النشيط أو الخامل، يتعلق بالأفراد الذين يحفظون هذه العلاقات أو ويدمرونها، وينبنى على هذه الفكرة أمران هامان:
1 – الأمر الأول: إن قوة الشبكة الاجتماعية وإِحكامها هي من قوة الأفراد لأنها من صناعتهم.
2 – الأمر الثاني: إن الأفراد قد يمزقون هذه الشبكة، فيما لو شُد الخيط أو توتر بشكل زائد لمصلحة أحد العقد، وهي (الظاهرة الورمية) التي تحدثنا عنها في بحث السرطان الاجتماعي، حيث تؤدي ضخامة الفرد (العقدة في الشبكة الاجتماعية) إلى قطع الأوتار الاجتماعية، وبالتالي بداية تدمير المجتمع على حساب نمو الأفراد وضخامتهم بظاهرة (السرطان)، فالسرطان ليس إلا مجموعات من الخلايا تعلن التمرد على النظام لحسابها الخاص، غير عابئة بما يحصل للجسم، ولكن السرطان كما عَلِمنا في مثل القرد الذي ينشر غصن الشجرة القاعد فوقه، فعندما يقضي على البدن بارتكابه هذه الحماقة المصيرية، يقضي على وجوده بالذات.
يقول مالك بن نبي: (بيد أن جميع أسباب هذا التحلل كامنة في شبكة العلاقات، فقد يبدو المجتمع في ظاهره ميسورا ناميا، بينما شبكة علاقاته مريضة، ويتجلى هذا المرض الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد، وأكبر دليل على وجوده يتمثل فيما يصيب (الأنا) عند الفرد من (تضخم) ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية، فالعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلاً).
كان اكتشاف حلقة البنزين في الكيمياء العضوية شيئاً مثيراً للغاية، فالسكر السداسي (الغلوكوز) الذي يستخدم للطاقة في جسمنا، مكون من ذرات من الفحم الأسود (الكربون)، كما أن الألماس اللامع الرائع الصلد، مكون من ذرات من (الكربون الأسود) المضغوط بشكل جبار. والذي منح اللمعان للذرات السوداء القبيحة، هو طبيعة (التركيب الداخلي) لذرات الكربون، فأصبحت (يكاد سنا برقها يذهب بالأبصار) والمجتمع بدوره هو (طبيعة تراص) خاصة بين أفراده، فإذا بقي ذرات كان سخاماً أسوداً، وشحاراً قاتماً، فإذا تراصت ذراته تحول إما إلى إعصار طاقة، أو لمعان تفوق عبر التاريخ . فالذي منح ذرة السكر الحلاوة المنعشة والطاقة الرائعة، وأعطى ذرة الألماس الصلابة المخيفة والتألق المدهش الفذ، هو طبيعة التركيب الداخلي، مع أن ذرات الكربون بالأصل سواد وقتام، وهشاشة وضعف بين العناصر المعدنية، بل يعتبر الفحم (شبه معدن) وليس معدناً، فهو ليس في صلابة الحديد، أو ندرة الذهب، أو ثقل الزئبق، أو إشعاع اليورانيوم، فالذي يعطي التركيبَ القوةَ الضاربة، أو النوعية الممتازة، أو التميز والتفوق، هو كيفية (اجتماع) عناصره الأولية. وكذلك المجتمعات، فالذي يَسِم المجتمع بالقوة أو الضعف، بالتميز أو السطحية، بالتفوق أو الانحطاط، هو نوعية علاقة ذراته (أشخاصه) الداخلية. وبذلك تفوق المجتمع الياباني وتأخر المجتمع العربي، مع أن النقطة الزمنية لاحتكاك كلا المجتمعين بالمجتمع الغربي كانت متقاربة، فارتفع المجتمع الياباني وحلق، في حين أن المجتمع العربي مازال يجرجر أقدامه المتعبة المريضة، ويعجز عن السيطرة على حل مشاكله، وبين عامي 1960 م و1990 م حقق المجتمع (الكوري) قفزة نوعية وبقي المجتمع (الغاني) يتجرع غصص التخلف، مع أن مستوى دخل الفرد كان واحداً في نقطة البدء!
إذاً المجتمع هو تركيب (STRUCTURE) تماماً كما في التراكيب الكيمياوية العضوية، وهو بالتالي ليس (مجموعة ذرات) و(كومة أشخاص) ونحن نعلم من الكيمياء العضوية، أن تغيير فاعلية مركب، من وضع إلى وضع، يتم من خلال السيطرة على تغيير نوعية العلاقات الكيمياوية الداخلية، ويبقى (الكم الذري) كما هو بدون نقص أو زيادة، فينقلب المركب الخامل إلى فعاِّل وبالعكس، والدواء إلى سم زعاف، والسم إلى ترياق، كما حصل مع باول إيلريش (PAUL EHRLICH) بعد (606) من المحاولات؛ لقلب التركيب الكيمياوي لبعض الأصبغة، فتحول المركب السام في النهاية إلى ترياقٍ وعقارٍ، لمعالجة داءٍ فتكَ بالجنس البشري أكثر من (400) عاماً (الافرنجي _ SYPHILIS).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى