الرئيسية

«الوزير الحنين زاد فالقالب ستين»

رشف الوزير الأول الأسبق الحاج أحمد أبا حنيني أكثر من كوب شاي، على غير عادته في الحذر من كل ما هو أبيض وحلو أو مالح، إذ لم يكن الكوكايين الأبيض القاتل اكتشف بعد لدى زبناء مغاربة. عقب أحد مساعديه بأن الإكثار من تناول السكر يضر بالصحة، فالتقط الحاج أحمد التنبيه ورد بما يفيد أن السكر قد يكون خادعا في حلاوته. فقد أصبح طعمه مرا، عندما تحول إلى قضية دفعت المعارضة إلى طلب سحب الثقة من حكومته عبر ملتمس رقابة.

  كان أبا حنيني يرتب أوراقه للرد على انتقادات الكتلة النيابية لحزب «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية»، التي اعتبرت الزيادة في سعر السكر، إلى جانب مواد حيوية أخرى، دليلا على عجز الحكومة عن إيجاد بدائل للأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تجتازها البلاد. وبدت من ذلك الوقت ملامح عودة الوفاق بين الاتحاديين والاستقلاليين، خصوصا بعد أن طفح الكيل واضطر وزراء الاستقلال، الزعيم علال الفاسي وخليفته لاحقا محمد بوستة ورجل الاقتصاد محمد الدويري، إلى إغلاق الباب وتقديم استقالتهم، بعد أن نشأت في وقت سابق خلافات بين الحزبين حيال الموقف من دستور العام 1962 وغيره.

  لم تنضج ظروف عودة الوئام، إلا أن الفريق الاستقلالي مال في اتجاه التصويت لفائدة ملتمس الرقابة، وإن لم يشارك في صياغته. والمفارقة أن الزيادة في أسعار السكر والدقيق والزيت ستكون سببا في تباعد مواقفهما، كما في العام 1981. ثم ستنحو في اتجاه التطابق، عند تقديم ثاني ملتمس رقابة في تاريخ المغرب السياسي مطلع التسعينيات.

  كما خطاب المعارضة يعود إلى نبع الانتقادات ذات الصلة بتقليب صفحات مستويات العيش وتداعيات ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، ستلتقي خطب الوزراء الأولين أو رؤساء الحكومات عند التبريرات ذاتها التي تكاد تغرف بدورها من نهر واحد. وقبل أكثر من نصف قرن صرح الوزير الأول الحاج أحمد أبا حنيني بأن الحكومة إن هي استمرت في توريد السكر من الأسواق الدولية بأسعار مرتفعة، ووضعته رهن إشارة المستهلك المغربي بأقل من كلفته، «ستضطر إلى أداء 17 مليارا من موازنة تعاني أصلا من عجز فادح». وفي سياق يتوازى وهذه النبرة سيقول الوزير الأول عز الدين العراقي من جهته إن الكلفة الباهظة لدعم المواد الاستهلاكية تستنزف موارد الخزينة.

  ربما كان الفرق بين الحاج أحمد أنه ربط عجز الموازنة بعدم القدرة على تأمين ولوج حوالي ثلاثة آلاف طفل مغربي إلى المدارس سنويا، وفق إحصائيات العام 1964، بينما اشتهر عز الدين العراقي بمذكرته التي حظرت على المواطنين متابعة دراستهم الجامعية، عندما كان وزيرا للتعليم، وعرف عنه أنه كان ينفر من حلاوة السكر الزائدة، بحكم خلفيته كطبيب.

  ولأن هاجس السكر احتل الصدارة في أكثر الفترات احتقانا، فقد عمد مطربون لإتحاف الجمهور بأغان تتغزل في السدود، لأنها ستساعد في سقي مليون هكتار من الأراضي الزراعية، وستخلص المغرب من أداء فاتورة السكر الباهظة. لكن ثنائيا شعبيا في منطقة الشاوية عكس الصورة وغنى عن «الوزير الحنين اللي زاد فالقالب ستين»، أي رفع ثمنه أضعافا مضاعفة. ويقال إن ذلك تسبب للثنائي في بعض المتاعب، مع أنهما لم يفعلا غير البوح بما كان يتردد على ألسنة الناس، خصوصا في المواد التي تستهلك قالب السكر أكثر.

  في وقائع أن الاستعمار الفرنسي أدرك ولع ساكنة الأرياف بالسكر، ولم يجد وسيلة لتشجيع أبنائهم على الالتحاق بالجيش، سوى قياس وزن الشاب المتطوع بما يوازيه من أكياس قوالب السكر. لكن الحكومة قلبت المعادلة وتطوعت على نحو مغاير بالزيادة في أسعار السكر. ما جعل إحدى جلسات ملتمس الرقابة تكاد تخصص لهذه القضية. وارتدى وزراء ونواب في المعارضة والأغلبية بدلات طبية في الدفاع عن حاجة جسم الإنسان إلى كذا من السعرات الحرارية والنشويات، فيما عارض آخرون هذا الطرح بالإشارة إلى مخاطر السكر لتبرير الزيادة في ثمنه.

  بين من يتشبث بكراسي السلطة ذات الحلاوة التي لا يضاهيها انتشاء آخر، ومن يعارضها، لأنها حولت حلاوة العيش إلى مرارة.. استحالت النقاشات حول ملتمس الرقابة إلى محاكمة مفتوحة للسياسة العامة في مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واستأثرت حلاوة السكر ومرارة العيش بحيز أكبر. حتى أن مراقبين لتطورات الأوضاع في مغرب الستينيات تحدثوا عن انتفاضة السكر، قبل أن تكتسح انتفاضات الخبز دولا عربية عدة، ثم يتماهى العيش مع الكرامة والعدالة الاجتماعية.

  ليس صدفة أن الخبز والسكر يتحالفان في تأجيج المشاعر، لأن رغيف الخبز وكأس الشاي يرمزان إلى تقاليد القناعة والصبر. لكن ترادف نفاد الصبر، حين لا يعثر ابتكار المسؤولين على شيء آخر يملأ الخزينة، غير ترفيع أسعار المواد الاستهلاكية. وعندما قال الوزير الأول الحاج أحمد أبا حنيني إن شرب الشاي ليس مفروضا وإنما هو اختيار يمكن القيام به أو تركه، ردت عليه المعارضة بأن صحة المواطنين البسطاء تتغذى على النشويات التي يحفل بها كأس الشاي. فيما هناك آخرون لا يعيرون هذه الحاجة اليومية أي اعتبار، لأن نشوياتهم متعددة التنوع، كما هي موائد آخرين يعيشون في الفضاء.

  كم كانت السياسة تدار بإيحاءات بسيطة وموحية، فقد احتل قالب السكر، كما الرغيف والزيت، مساحة أكبر مما تستطيعه الصراعات الإيديولوجية. حدث ذلك في الماضي وقديما أرخ بسطاء أعوام الازدياد والوفاة بـ«أعوام البون» وما إلى ذلك من الآفات الاجتماعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى