الرأي

بعيداً عن باريس وإسطنبول.. (2/2)

في الآن ذاته، ظلت إدارات البيت الأبيض المتعاقبة تغفل الإشارة، حتى على استحياء، إلى «أعمال القتل غير المشروعة» وحالات «الاختفاء القسري»، التي تُعزى إلى قوّات الأمن الكولومبية، وتعجّ بها تقارير منظمات حقوق الإنسان. وهذه الانتهاكات لا تُعدّ بالعشرات أو بالمئات، بل بالآلاف وعشرات الآلاف؛ وهي تشمل وجوه المعارضة الديمقراطية السلمية، وليست تلك المسلحة التي تخوض حرب عصابات، فضلاً عن ممثّلي النقابات في ميدان أشغال النفط تحديداً، وبعض أبرز وجوه المجتمع المدني الكولومبي. وإذْ ظلّ البلد يشهد حرباً أهلية طاحنة، ينخرط فيها عشرات الآلاف من أعضاء الميليشيات يميناً ويساراً؛ فإنّ البيت الأبيض، وبصرف النظر عن هوية شاغله الأوّل، وما إذا كان جمهورياً أم ديمقراطياً، ظلّ يختزل هذا كلّه إلى مجرّد حرب أمريكية ضدّ المخدرات.
والاختزال ينطوي، بالطبع، على طمس الحقائق السياسية والاجتماعية وراء هذه الحرب الأهلية؛ وكيف أنّ بعض الجوهريّ الأهمّ فيها كان مصادرة أراضي مئات الآلاف من الفلاحين، وطردهم من مئات القرى على امتداد ثلاثة عقود، الأمر الذي أطلق شرارة العصيان الشعبي الذي تتزعمه اليوم الـ«فارك». ورغم أنّ هذه الجبهة سيطرت على مساحات شاسعة واسعة من الأراضي الوطنية، فإنّ الولايات المتحدة تصرّ على اختزالها إلى «عصابة مخدّرات»، وتضع أمر تصفيتها على قدم المساواة مع محاربة عصابات المخدرات الحقيقية.
الحقيقة، رغم ذلك، تشير إلى أنّ الزمرة العسكرية المهيمنة على المؤسسات الديمقراطية الشكلية هي التي تسهّل زراعة المخدرات، وتصنيعها وتجارتها؛ لأنها شريكة مباشرة في الـ«بزنس»، بل هي الشريك الأوّل الذي لا غنى عنه. وفي عام 1998، لتقديم مثال مضحكٍ ـ مبكٍ، هبطت طائرة رئيس أركان سلاح الجوّ الكولومبي في مطار ميامي، وشاءت الصدفة وحدها أن تُكتشف على متن الطائرة الرسمية كمية من الكوكايين لا تقلّ عن… نصف طن!
المدهش أكثر أنّ الرئيس الكولومبي الأسبق أندريس باسترانا سارع، فور انتخابه، إلى فتح حوار مع الـ»فارك»، رافضاً التصنيف الأمريكي الذي يضعها في خانة عصابة مخدرات، ومعتبراً أنها حركة ثورية ذات مطالب سياسية واجتماعية. ومَن الذي فرمل حوار الرئيس؟ الولايات المتحدة وحدها، سواء عن طريق الضغط المباشر على الرئيس، أو عن طريق تحريض الطغــمة العسكرية على تصعيد العمليات العسكرية ضد الـ«فارك» بالتزامن مع إطلاق مفاوضات السلام بين السلطة والجبهة؛ أو ــ أخيراً ــ عن طريق الزيادة الدراماتيكية في حجم ونوعية المساعدات العسكرية الأمريكية، ورفع تلك المساعدات إلى مستوى التدخل العسكري.
وفي الآن ذاك، حين كانت الدوائر الأمنية الأمريكية تسعى إلى تفخيخ حوار باسترانا مع المعارضة الثورية، كان الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون يزور البلاد بهدف دعم الرئيس الكولومبي في «المعركة التي يخوضها من أجل تثبيت دعائم الحكم الديمقراطي»! الزيارة، مع ذلك، اقترنت بتقديم مساعدات أمريكية بقيمة 1.3 مليار دولار أمريكي (الرقم الثالث لأعلى مساعدات أمريكية خارجية، بعد إسرائيل ومصر)؛ تأخذ في الجوهر شكل معدّات عسكرية، ولا علاقة لها بالتنمية أو التطوير الاقتصادي والاجتماعي.
أليس إعلان الولايات المتحدة الحرب على الـ«فارك» يعني «اصطفاف البيت الأبيض مع الطغمة العسكرية، المتورطة تماماً في تجارة السموم، والمتحالفة مع ــ والساكتة عن ــ ميليشيات اليمين التي تمارس الإرهاب والمذابح البربرية كلّ يوم؟»؛ تساءل روبرت وايت، السفير الأمريكي المتقاعد الذي عمل في السلفادور والباراغواي.
بالطبع، وهكذا ستبقى الحال في كلّ ملفّ تباشره واشنطن بروحية الاختزال، ولا يراه البعض إلا عبر أرنبة أنف تبصر باريس وبروكسيل واسطنبول، وتنحسر عن إرهاب القوى العظمى؛ في حلب، كما في بوغوتا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى