شوف تشوف

الرئيسية

بين «حراز» الشرايبي و«دمليج زهيرو»

محمد الأشهب
كاتب و صحفي
أرفق الصديق عبد الواحد الشرايبي ملاحظاته عن إحدى «الحكايات» بأن الكاتب المخرج الراحل عبد السلام الشرايبي، صاحب رائعة «الحراز»، يعتبر أول من أدمج فن الملحون في إبداعات مسرحية. والواقع أني كتبت عن الطيب الصديقي بصفته مخرجا، حرك جمود قصيدة الملحون في اتجاه أفق جديد، استبدل فيه المؤدون الجلابيب والطرابيش الحمراء بلباس عصري، وصاروا يتحركون فوق الخشبة، على غير الصورة المألوفة للأداء الرزين.
روى لي أحمد الطيب العلج أن الوزير العلامة محمد الفاسي، الذي يعود له الفضل في التنقيب عن مآثر هذا الفن الخالد.. أثار انتباهه إلى ما تحفل به قصائد الملحون من حبكات درامية وسرد سلس وشخوص، تشكل قوام الأعمال المسرحية الحديثة. لكن العلج اقتبس من المأثورات والأمثال الشعبية أكثر مما أصغى إلى قصائد الملحون، فقد كان كاتب كلمات نقلت العامية إلى بلاغة البساطة والحوار المباشر.
في قصيدة «دمليج زهيرو» تتناثر الخواطر حول دقة الوصف ودلالات السرد والبوح، إذ يعبر الراوي أزقة مدينة فاس العتيقة شبرا شبرا، يتأمل الحوانيت والسقايات وأنواع التجارة، بحثا عن سوار العشيقة الذي فقده. يستكشف الأمكنة ويستنطقها، عساها تعينه في الوصول إلى «دمليج زهيرو» الذي لم يكن أكثر من أثر يقتفي احتمالات العثور عليه، ومن أجل أن يضفي على جولته طابع الوصف والاسترشاد بالعلامات، يتوقف عند كل درب وزقاق، بذكره بالاسم والخصائص والمكونات، كأنما هو أدب رحلات لا يراوح المكان.
رواية مثيرة تنبني على حادثة رئيسية، بأبطال واقعيين يقدمون صورة عما يجري من قصص غرامية، محورها البحث عن سوار. وجرأتها تنبع من الجهر بأسرار العشق بين ثنايا مجتمع محافظ في مدينة لا تحجب الأسوار أساورها. والظاهر أن التأنيث والتصغير في الأسماء صفة تلازم التشبيه، فيصبح اسم زهيرو مرادفا لزهرة، كما عويشة تعبيرا عن عيشة، أو كما فطوم ترافق فاطمة.. فتنسج الأسماء والمسميات لوحات مفعمة بالعاطفة التي تجرف السواكن.
غير أن «دمليج زهيرو» أو «خلخال عويشة» يتحولان في «الحراز» إلى شخوص متحركة. ولعل هذا ما دفع الكاتب عبد السلام الشرايبي إلى ترجمة انبهاره بحركية قصيدة الملحون في مضامينها، وليس أسلوب أدائها، إلى أعمال مسرحية تصبو إلى إقامة زواج عرفي بين المسرح والملحون.. لا يكتمل التصديق على وثيقته إلا بتصفيقات الجمهور الذي يكتشف تمازجا فريدا في الإبداع، روحه وأصله يثنيان بخصوصيات مغربية.
في ملحمة «النور والديجور» لم يقتصر الطيب الصديقي على استيحاء قصائد الملحون ذائعة الصيت، بل أحضر المنشد التولالي إلى أعلى قمة في الخشبة، «يتلو» مدائحه وقصائده المنبثقة من ديوان فن الملحون. ولئن كان الكاتب عبد السلام الشرايبي سبق فعلا إلى سبر أغوار هذا العالم، وتحديدا من خلال مسرحيتي «الحراز» و«سيدي قدور العلمي»، وتنبه مبكرا إلى البناء التشخيصي الذي تحفل به قصائد الملحون.. إذ تعكس بصورة أو بأخرى ولع المغاربة بالتمثيل والغناء، قبل ظهور التقليد المسرحي في شكله العصري.. تبقى الدراسات العميقة التي قدمها الدكتور حسن المنيعي في تأصيل التقاليد المسرحية، من أهم المراجع التي تعرض إلى ظاهرة التمثيل ونقد الظواهر الاجتماعية.. وما بين طقوس «الحلقة» في فاس ومكناس ومراكش وغيرها، وبين منتزهات الملحون هناك دائما عدوى التمثل التي صارت مسرحا.
قليلة هي الأعمال التي جمعت الكاتب عبد السلام الشرايبي بالمخرج الطيب الصديقي، أبرزها «الحراز» التي قدمت عبر طبعات وأشكال منقحة. وكانت البداية من ربيرتوار فرقة «الوفاء المراكشية» ثم المسرح البلدي في الدار البيضاء، وفرقة «أكواريوم» التي أعادت الحياة إلى انصهار الملحون والمسرح. فقد كان الصديقي يهيم وراء الفرجة واللحن والإيقاع، بينما الشرايبي اهتم بالأبعاد الاجتماعية للصراع الذي يدور بين «الحراز» ومنافسه الذي أسر عشيقته وراء الأسوار. ما حذا بالحراز إلى تقمص العديد من الشخصيات للوصول إلى إلقاء نظرة على عشيقته، مستخدما في ذلك شتى الحيل والتعابير و«انتحال» الشخصيات.
في الحقيقة كان الحراز ممثلا بارعا، قبل أن تصبح قصته عملا مسرحيا. وربما كان الأداء مختلفا بين فرقة «الوفاء المراكشية» التي قدمت العرض على الفطرة، والمسرح البلدي الذي استعار ديكورا متحركا، واستنجد بفرس خشبي يحتمي به الحراز على غرار «حصان طروادة» وإن لم يكن غرضه شن الحرب، وإنما لقاء الحب.
الذين شاهدوا العروض الأولى لحراز الطيب الصديقي، يذكرون صهيل الراحل بوجميع الذي أنشد مقاطع من قصيدة «الحراز» قبل أن تظهر موجة «ناس الغيوان»، كما أدى الفنان مولاي الطاهر الأصفهاني دوره بإتقان أبان عن كعب عال في الغناء والتمثيل. ولم يكن المخرج حميد الزوغي غائبا عن الموجة، عندما انضم إلى فرقة «جيل جيلالة» خارج الأضواء. لكن بعض الممثلين القادمين من الحي المحمدي في الدارالبيضاء أو من مراكش، سيكون لهم حدس التقاط اللحظة التي توجت باندفاع قوي نحو المجموعات الغنائية التي خرجت عن المألوف.
الأكيد أن الراحل عبد السلام الشرايبي أغرى متابعيه ومجايليه بالغوص في عمق بحار الملحون. فقد كان يصوغ تجربته بنزوع فطري، يقوم على اكتشاف مجاهل فن الملحون. أذكر بسمته التي لم تكن تفارقه وتواضعه الذي كان يخفي وراءه قدرات إبداعية خلاقة.. سار في طريقه مبكرا، وتوقف نبض قلبه عند ممرات الطريق. لعله كان يفكر في مسرحيته القادمة التي لم يكتبها، فالطريق تقتل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى