الرأي

بين فرقتين ومسارين مختلفين

أصر الممثل القدير العربي الدغمي على أن يكون أول من يبادر بالسؤال، أثناء مقابلة أجريتها معه لفائدة «العلم الفني» التي كانت تصدر كل أحد. قال ضمن ما أذكره: هل تستطيع أن تتغيب عن العمل لفترة لا تقل عن عامين، ثم تعود إلى العمل، وتجد أن راتبك تم الاحتفاظ به، بل أضيفت إليه علاوات وتعويضات؟
لم أكن أعرف قصده، وإذا به يشرح العلاقة بين العمل في الوظيفة العمومية وفوضى العقل الإبداعي الذي لا ينضبط للإجراءات الإدارية. كان النقاش وقتذاك حول تطوير قانون العاملين في الإذاعة والتلفزيون يغطي على غيره من الإشكاليات. وواجه مطربون ومخرجون وممثلون وملحنون وموسيقيون صعوبات في إقناع مسؤولي المالية بأن شهاداتهم يحملونها على أكتافهم. فالصوت الشجي لا معيار له في قواعد الأداء، والعازف الماهر لا وجود لصفته ومهنته في السلالم الإدارية، كما أن الممثل ذا الموهبة العالية لا يمكن أن يعثر على مقاسه في رقم التأجير، وهكذا دواليك..
كأني بالممثل العربي الدغمي يختزل المسافة والجدل حول الأهلية الوظيفية. إذ يصبح المبدع عونا أو تقنيا أو مهندسا، من أجل الملاءمة بين راتبه ووضعه الإداري.. لكن مخرجين وممثلين رفضوا الانصياع لقوانين الوظيفة العمومية، وحين بلغوا سن الإحالة على التقاعد لم يجدوا ما يخفف من معاناتهم. ولعل الظاهرة التي تطبع الوسط الفني في المغرب، عند مواجهة آفات المرض وغلبة الزمن تعكس الصورة الأخرى لأوضاع الفنانين المغاربة.
في تلك المقابلة، كان العربي الدغمي يفاخر بأنه قدم استقالته من العمل الإذاعي في فرقة التمثيل، وانصرف لتجريب حظه في المبادرة الشخصية، بما فيها اقتحام عالم التجارة، على منوال ما كان فعله الممثل حمادي عمور الذي عاد إلى تقاليد الأسرة في بيع الذهب. وعندما اكتشف العربي الدغمي أنه لا يصلح لأن يكون تاجرا ولا يتقن مهنة أخرى غير التمثيل، عاد إلى العمل الذي وجد له أصلا. وكانت المفاجأة أن راتبه لم ينقطع، ما اعتبره تقديرا لإبداعه الذي لا يحده أفق. وكانت حالته فريدة من نوعها، تختلف عن مآل مسرحيين آخرين.
ذات صباح تلقى مخرجون وممثلون ومهندسو ديكور وملابس وإضاءة، إشعارات بالاستغناء عن خدماتهم في فرقة «المعمورة» التي كانت لها أمجاد وروائع. كانوا في غالبيتهم محسوبين على قطاع الشبيبة والرياضة أو الإنعاش الوطني.. في غياب أي قانون تنظيمي يؤطر انتماءهم إلى الوظيفة العمومية، ولم ينفع ترددهم على الإدارة في تسوية أوضاع الكثير منهم. فقد كانت الإجراءات المتعلقة بالنظام الأساسي لمسرح محمد الخامس لا تزال موضع بحث ودراسة. وزاد في تأزيم الموقف أن قرار حل فرقة «المعمورة» كان «سياسيا» بدافع سوء فهم وتأويل في غير محله لعرض مسرحي اعتبره وزير الشبيبة والرياضة آنذاك محمد أرسلان الجديدي «تجاوز الخطوط الحمراء».
في أي حال، فقد كان وضع فرقة التمثيل في الإذاعة أفضل من نظيرتها في «المعمورة». ويعود ذلك إلى أن قانون التوظيف في الإذاعة والتلفزة سبق مثيله في المسرح. وبينما تدرج هذا الأخير من وصاية وزارة البريد إلى الأنباء، توزع القطاع المسرحي شبه الخاص بين وزارتي الشبيبة والرياضة والثقافة. ولم يحل ذلك دون التحاق ممثلين وتقنيين من الإذاعة بفرقة «المعمورة»، مثل الهاشمي بن عمر المختص في فن الديكور، ومحمد أحمد البصري صاحب رائعة «الشرع عطانا ربعة»، والممثل المقتدر المحجوب الراجي وغيرهم..
كانت المنافسة قائمة في إطار من الاحترام والتعاون، وتمكنت فرقة التمثيل الإذاعي أن تزاحم «المعمورة» في جولات عبر المدن، إذ شاهد الجمهور نجومها الذين كان يسمع أصواتهم فقط، أمثال حمادي التونسي والعربي الدغمي ووفاء الهراوي وأمينة رشيد وحبيبة المذكوري وعبد الرزاق حكم وآخرين على الخشبة، في تلوينات استوحت وقائع تاريخية وأخرى هزلية واجتماعية، بينما كان أداء «المعمورة» موزعا بين المسرح العالمي والريبرتوارات المغربية.
لم يكن المآل واحدا بين أعضاء الفرقتين. وقبل أن تدخل شركات الإنتاج على الخط، كانت فرقة «المعمورة» أقرب إلى التدبير المستقل، كونها غرفت من تجارب سابقة حولت غابة «المعمورة» إلى معهد فني، يعتكف فيه الممثلون والمخرجون والتقنيون شهورا عدة، في انقطاع عن العالم الخارجي، إلى حين الانتهاء من التداريب وإنجاز عروض مسرحية تشمل عملين إبداعيين مرة كل سنة. فيما أن عاملين في فرقة التمثيل الإذاعي جربوا بدورهم مغامرات الاعتماد على الذات. ولعل الممثل الكبير محمد حسن الجندي كان أول من فطن إلى المبادرة الحرة، خارج آليات فرقة التمثيل الإذاعي.
بقي أن أذكر أن الزميل الراحل محمد العربي المساري كان وراء إجراء مقابلة مع الممثل العربي الدغمي. وسأعرف لاحقا أنه كتب بدوره للمسرح ولفرقة التمثيل أكثر من عمل فني، كما ترجم واقتبس روائع عالمية. وكذلك فعل الكاتب محمد عبد السلام البقالي، الذي أبهر جيل الماضي بمسلسل «مدينة الكنوز»، بينما سجل محمد حسن الجندي رقما قياسيا في متابعة «الأزلية» التي استحوذت على الجمهور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى